بين الحين والآخر تصدر في السودان تصريحات مثيرة للجدل حول اكتشافات أثرية للأنبياء، مع الإشارة بالطبع إلى مناطق جغرافية بعينها، اكتسبت هالة من القداسة بمرور الزمن. وفي الغالب تصاحب تلك التصريحات الغرائبية ردود أفعال هائلة ما بين مشكك ومصدق لها، سرعان ما تخبو، إلا أنه ومع ذلك، ثمة من يتمسك بأن السودان بلاد بعض الأنبياء، وأن معظمهم بالفعل مر من هنا.
تنتشر في السودان وتستمر حالات تصريحات مثيرة للجدل حول اكتشافات أثرية يدعي أصحابها أنها تعود لأنبياء
أكثر الشواهد التي تبعث على يقين شبه مطلق بأن السودان القديم كان منطقة دارت فيها أحداث تاريخية أشارت إليها الكتب السماوية؛ مقرن النيلين، وهي المنطقة التي يلتقي فيها النيل الأزرق المنحدر من الهضاب الإثيوبية، مع النيل الأبيض القادم من بحيرة فيكتوريا.
نبي من بلاد السودان
ومثل ما أن موسى النبي هو بطل جل الروايات التاريخية التي دارت في السودان، مثل قصة جبل الطور، ولقائه بالرجل الصالح، وغرق فرعون في النهر، وفقاً لكتاب الشيخ النيل أبوقرون، الموسوم بـ"نبي من بلاد السودان"، فقد كشف باحث سوداني معلومات مثيرة عن الآثار الدينية في دارفور غرب السودان، قائلاً إنه عثر على أثر قدم لأحد الأنبياء على صخرة بمنطقة "طور"، كما وجد مرقد "أصحاب الكهف" في كهفٍ بقمة جبل مرة، قبل أن يزعم بأن "الفور"، تلك القبيلة السودانية، من قوم النبي موسى.
اقرأ/ي أيضًا: من يقوض قطاع السياحة في السودان؟
وأجرى الباحث فيصل محمد أحمد، بحثًا علميًا بعنوان: "العلاقات السودانية الدولية بين الديانات السماوية"، بالتركيز على منطقة جبل مرة، ذكر فيه إنه توصل من خلال البحث إلى "وجود آثار لأقدام أحد الأنبياء على صخرة بمنطقة طور بجبل مرة"، لكنه أشار إلى أن البحث لم يحدد بعد النبي صاحب الأثر.
وأشار الباحث، وهو محاضر سابق بجامعة أم درمان الاسلامية، إلى وجود مقبرة "أصحاب الكهف" في قمة جبل مرة، قائلاً إنها تؤكد حقيقة الوصف الذي ذكر في القرآن الكريم، مشيرًا إلى وجود آثار على بعض الصخور تدلل على وجود الكتب السماوية الأربعة: "الزبور، التوراة، الإنجيل والقرآن" بذات المنطقة. وقال فيصل محمد أحمد، إنه تأكد من خلال بحثه من وجود نسخة أصلية من التوراة "غير محرفة" بجبل مرة، مملوكة لإحدى الأسر التي أكدت له بان الكتاب إرث مملوك لأحد أجدادها السابقين.
وزير على خط الإثارة
لكنه وبالرغم من ذلك لم تقتصر تلك الروايات على اجتهادات بعض الباحثين، وإنما دخل على خط الفتاوى التاريخية سياسيين، أبرزهم وزير الإعلام الحالي أحمد بلال، الذي فجر فرقعة إعلامية حين زعم أن النبي يونس أتى إلى ما تعرف الآن بمنطقة المقرن في الخرطوم، عندما اتخذ الحوت سبيله في البحر، قائلاً: "نسيه الحوت عند الصخرة، وهي جزيرة توتي" وسط الخرطوم.
ودعا بلال أعضاء اتحاد الصحفيين العرب لزيارة منطقة "المقرن"، مؤكداً خلال مخاطبته الجلسة الافتتاحية لاجتماعات الأمانة العامة والمكتب الدائم لاتحاد الصحافيين العرب، أن مقرن النيلين هي التي تعلم منها النبي موسى الحكمة عندما التقى بالخضر.
لم يكتف وزير الإعلام السوداني بتلك الرواية، وإنما عاد مرة آخرى لإثارة الجدل، حينما قال بأن فرعون الذي ذكر في القرآن الكريم كان سودانياً، مستدلاً بقصة "الأنهار التي تجري من تحتي"، مشيراً إلى أن مصر ليس فيها سوى نهر واحد، بينما السودان بلد الأنهار، وأضاف الوزير الذي كان يتحدث مستنكراً التقليل من شأن الأهرامات والآثار في شمال السودان "أن تاريخ السودان تعرض للكثير من الزيف" على حد قوله.
سر الصخرة المقدسة
هذا الولع الجديد بكل ما يمت للماضي المقدس بصلة، دفع محلية الخرطوم للتخطيط لاستغلال والاستفادة من وجود صخرتين كبيرتين بمنتزه المقرن العائلي، لزيادة إيرادات المحلية من السياحة. ووفقاً لمعتمد المحلية أحمد علي أبوشنب، فإن إحدى الصخرتين "يرجع تاريخها إلى سيدنا موسى عليه السلام والتي قابل فيها نبي الله الخضر". ويتم الآن استغلالها كمزار سياحي.
أما الصخرة الثانية فهي غامضة، تنبع منها المياه الصالحة للشرب. يُذكر أن عددًا من اليهود في حالة وفاة شخص لديهم قبل مغادرتهم للسودان منذ عقود، كان يتم إحضاره إلى الصخرة ووضعه عليها ثم غسله ودفنه، كما تلاحظ زيارة عدد من السياح إلى الصخرة بمجرد وصولهم مطار الخرطوم، والراجح أن معظم زوّار الصخرة من اليهود الذين يتسللون إلى السودان تحت هوية سياح أوربيين.
ولربما كان الكاتب والباحث السوداني أبوقرون، أكثر جراءة في تناول تلك الروايات، وذلك من خلال كتابه الشهير "نبي من بلاد السودان"، والذي غص بقراءة جديدة في تفسير الآيات القرآنية التي وردت بحق النبي موسى وعدوه فرعون.
وحاول أبوقرون التسليم بما ورد في القصة، والشك في المكان الذي دارت فيه، مشيراً إلى أن شمال السودان أو بلاد النوبة هي الموطن الأصلي لموسى وفرعون. واعتبر أن نهر النيل هو المكان الذي ضربه موسى بعصاه فانشق إلى نصفين، بجانب استدلاله بجبل البركل على مقربة من عاصمة مملكة كوش. كما أن "التكليم كان من شاطئ الوادي الأيمن"، كما يقول. ولا زال جبل البركل الذي يقع شرق نهر النيل في إحدى انحناءاته، يحفل بالقداسة والاعتقادات الروحية، والمرجح أن "هذه هي المنطقة التي حدث بقربها عبور موسى ببني إسرائيل وغرق فرعون في النهر" وفقاً لأبوقرون.
التقييم الموضوعي للآثار
من مدخل الحاجة إلى إثبات علمي، يتعامل البروفيسور أحمد إلياس، الباحث والمؤرخ السوداني، مع تلك الوقائع، فهو لا يرفض وجود آثار نبوية في السودان، لكنه لا يأخذها كمسلمات، مطالباً بإخضاعها للتقييم العلمي قبل كل شيء.
وقال أحمد إلياس لـ"ألترا صوت"، إن موسى النبي عاش في القرن الـ13 قبل الميلاد، وعاش في عهد ملك معروف، وبالتالي "يفترض أن نفسر الأحداث والإشارات بالصورة الكاملة، ونأخذ بعين الإعتبار ما كتب عن سيدنا موسى والأنبياء في المراجع التاريخية الموثوقة"، كما يقول.
وطالب إلياس بضرورة ما أسماه بـ"التقييم الموضوعي للتاريخ، وأخذ عينات من الآثار التي نحصل عليها وفحصها جيداً من قبل مختصين". وإزاء الآثار التي عُثر عليها في دارفور حول مقبرة أصحاب الكهف والكتب السماوية القديمة، قال إلياس: "الوقت مبكر للحكم على هذه الآثار، ويفترض أن تمر بمراحل معينة قبل الإعلان عن حقيقتها"، منتقداً في الوقت نفسه إهمال الآثار السودانية، وإسناد وزارة السياحة والآثار إلى وزير ينتمي إلى جماعة أنصار السنة المحمدية، لدرجة أنه لم يدخل المتحف السوداني بسبب ما يعتقد بوجود أصنام فيه!
يرى كاتب سوداني أن قصتي شق موسى البحر بعصاه، ولقائه بالخضر، إنما حدثت في مكانين مختلفين بالسودان
وفوق ذلك، لم يستبعد الباحث والمؤرخ أحمد إلياس وجود آثار للأنبياء والرُسل في السودان، واستشهد بالقرآن الذي يقول: "وما من أمة إلا خلا فيها نذير"، باعتبار أن الله أرسل لكل أمة شاهداً منها يدعوها للتوحيد، من بينها أمم عاشت في السودان. وعلى هذا القياس يمكن أن تكون هنالك آثار حقيقية، بحسب إلياس، الذي أكد أن الفكر الديني التوحيدي موجود في السودان منذ آلاف السنين. وطالب إلياس السودانيين بمعرفة تاريخهم، وعدم الأخذ بفرضيات فقط "حتى لا نكون مضحكة بين الأمم" على حد قوله.
اقرأ/ي أيضًا: