مصر كلها تزحف إلى مقام "أم العواجز" الثلاثاء 26 نيسان/أبريل، فلمولدها ذكرى وحنين لا ينتهي. السيدة زينب تحتفظ بعلاقة خاصة جدًا مع آل القاهرة، والناس في مصر تقدس آل البيت لدرجة ترتفع بهم إلى مراتب الأنبياء والرسل.
"السيدة زينب" تحتفظ بعلاقة خاصة جدًا مع آل القاهرة، والناس في مصر تقدس آل البيت لدرجة ترتفع بهم إلى مراتب الأنبياء والرسل
عندما تضيق الدنيا بفقراء ومرضى هذا البلد "غير الأمين" لا يجدون إلا حضن "أم العواجز"، تنساب في حجرها الرحمة، ويشع ضريحها نورًا ودفئًا لا يشعر به إلا أولاد السبيل، ومن داست عليهم "الكعوب العالية" فتدحرجوا إلى مقامها "الكريم" يمدون أبصارهم إلى الله، ويطلبون منه نظرة حنان حين تتكاثر عليهم الهموم، وتهزمهم وتساويهم بالتراب.
وهل من واسطة إلى الله أفضل وأرق من حفيدة النبي، التي يقصدها المظلومون من الصعيد وسيناء وآخر بلاد الدنيا، يتبرَّكون بها، ويخشعون في حضرتها، ولا يقدّمون لها شيئًا، يقدمون "العشم" في قدرتها على أن تقدم لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، دون أن يعدوها بمقابل. علاقة المصريين بالله، نفسه، تبدأ بـ"العشم" وتنتهي إليه، يزورون "أم العواجز"، تتساقط دموعهم على عتباتها، ويقولون في تقوى تليق بالموقف العظيم: "مدد يا ست يا طاهرة.. بركاتك يا أم هاشم".
اقرأ/ي أيضًا: "رأس الحسين" بلا مريدين في مصر!
كل ساع إلى محبة السيدة الكريمة وكرمها، يتعامل معها بما يناسبه، فهي أهل لكل شيء، لا تستخسر نفسها في أحد، أم للضعفاء، وأخت للتائهين، وحبيبة لمن فقد حبيبته، فتجد من يقف على عتباتها، ويبكي: "يا رب عشان خاطر حبيبتك السيدة زينب". افترض أن لها عند الله خاطر عظيم يسمح بأن يستجيب لدعوته لأنها خير وسيط يحمل إلى رب العباد دموع "الغلابة"، ودعواتهم، وورقة "مطوية" بحاجاتهم.
وعندما تمنح السيدة زينب عطاياها، وبركاتها، التي ليس لها أول من آخر، تصرف للمقهورين من عندها بلا حساب، يتعامل معها المصريون بـ"دلع"، تجد واحدًا من "برمجية" مصر القديمة يلف سجائره، ويشدّ "الأنفاس" بوسع صدره حتى يضيع في عالم آخر ثم يتوضأ ليصلي الفجر في حضرتها، ويطلب الرحمة والرزق والصحة وراحة البال والشفاء من دخان الحشيش الذي حاول أن يبرأ منه وفشل، ثم زيادة في الدلال، والمحبة، التي فطر عليها المصريون، ينام على السجادة الخضراء المفروشة أمام مقامها إلى أن يفيق من الغيبوبة، ويطمئن أن الله لا يمكن أن يعذبه لأنه من "حبايب السيدة"، وتبدأ مرحلة جديدة.
بعد العشم، يبدأ "العَتَب". يعاتب المصريون "أم العواجز" لأنها تخلَّت عنهم، تركتهم للفقر والمرض والضياع والحروب المقدّسة مع المجهول، دون أن تتدخل، رغم أنها جارة لابد أن تحنّ إليهم وتنقذهم. هي حالة من حالات "الدلع" المبالغ فيها، فنحن نريد أن يكون عندنا من ينهي كل شيء، لنأخذ أماكننا في الجنة بسهولة.
أكثر من ذلك هم لا يعتبرون "السيدة زينب" من أولياء الله الصالحين، أو آل البيت فقط، كل واحد يعتبرها ملكًا خاصًا له، تنفذ له وحده ما يريد، هذا جزء من طبيعة المصريين الذين لا يحتفل غيرهم بيوم ميلادها، رغم أنها لكل المسلمين، حفيدة رسول جاء إليهم جميعًا، لكن أهل القاهرة احتكروها، واحتكروا عيد ميلادها وجعلوا منه عيدًا دينيًا شعبيًا لا يشاركهم فيه أحد، رغم أن الاحتفال به في البلد الذي ولدت فيه حرام.
يعاتب المصريون "أم العواجز" لأنها تخلَّت عنهم، تركتهم للفقر والمرض والضياع والحروب المقدّسة مع المجهول
كتب التراث والمساجد القديمة لا تحمل صورة واحدة للسيدة الطاهرة ولا وصفًا دقيقًا لملامحها، إلا أن هناك، في المسجد الذي يحمل اسمها، صورة لها في عيون من لا يروها إنما عرفوا سيرتها العطرة: "بيضاء.. ترتدي حجابًا يشبه حجاب مريم العذراء.. وجمالها الربَّاني يجعلها ملاكًا تواضع وأطلّ علينا من شرفته السماوية".
ولكن، هل يعرف المصريون السيدة زينب فعلًا؟ بالطبع لا، يسمعون عن بركاتها وخيراتها، ومن مسح عتبة ضريحها فشفاه الله من الصرع، ثم يقرؤون حكاية سيدة دخلت المقام "مشلولة" وخرجت منه تجري، وحكايات أخرى ربما تكون حقيقية، ولا يمكن، في نظرهم، أن تكون شائعات. هي الحلم الذي ننتظر منه أن يحقق طلباتنا، ونترجى مساعدتها في الأزمات، ونتغنى بقوتها ومعجزاتها وقدرتها على احتواء الضعفاء، فهي "سَنَد" من خسر الجميع، وخسر نفسه، و"براح" لمن ضاقت به الدنيا وضلّ سعيه.
ما حول "أم العواجز" من أساطير لم يمنع من البحث والتفتيش وراء سرها. السيدة زينب تحملت ما لا يقدر عليه بشر، شهدت مقتل أخيها الحسن بعد أن غدرت به زوجته، ووقفت على اغتيال أخيها الحسين، واقتحمت مشاهد قتل صغار بيتها لكنها دفنت أحزانها في قلبها ومضت لتحافظ على ما تبقى من أهل بيت الرسول.
اقرأ/ي أيضًا: التراث الصوفي وتجديد الخطاب الديني
بدأت مأساة السيدة زينب مبكرًا، ولم تكن كربلاء إلا الحلقة الأولى من الحزن الكبير بعد أن أحاط جيش يزيد بالحسين خرجت من خيمتها وقالت في أسى لعمر بن سعد، قائد الجيش: "يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر؟"، لم يجبها عمر بشيء فقد كان الموقف أكبر منه وأعظم وما هو إلا فتى مأمور من سيد ظالم، وكأنه لم يكن كافيًا على زينب أن تشهد مقتل الحسين فشهدته، وهو يمثل به شر تمثيل.
مات الرجل إذًا، وبقيت زينب وبدلًا من أن تترك لأحزانها، جروها إلى أحزان أعظم فبعد المعركة، ساق الطغاة ذرية الرسول في موكب ضم السيدة زينب وأختها أم كلثوم، وابنتي الحسين، فاطمة وسكينة، وبقي في الركب زين العابدين علي بن الحسين ليحفظ ذرية الرسول من الفناء.
خرج الركب الطاهر على أقتاب الجمال بغير غطاء، وعندما بدؤوا السير، مرَّت السيدة زينب على ما قطّع قلبها، رأت جثث أهل البيت متناثرة واختلط الدم بالتراب فقد بقيت الجثث ثلاثة أيام ملقاة على صخور كربلاء. لم تجد السيدة زينب ما تقوله فصرخت والألم يمزق قلبها: "يا محمداه، هذا حسين بالعراء مقطع الأعضاء وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيد الشهداء".
دخل موكب السبايا إلى الكوفة، وما إن وقعت أنظار أهلها على آل البيت الشريف حتى أقبلوا يعطون الأطفال وهم على محاملهم بعض التمر والخبز والطعام فصاحت فيهم السيدة أم كلثوم: "يا أهل الكوفة إن الصدقة حرام علينا ثم أخذت من أيدي الأطفال وأفواههم ما أخذوه من أهل الكوفة وألقت به في الأرض". بكت نساء الكوفة بحرقة على ما صار إليه أهل البيت النبوي، لكنها قالت: "يا أهل الكوفة، يقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم فالحاكم بيننا وبينكم الله".
وقف أهل البيت أمام بن زياد، حاول أن ينال منهم، وقال للسيدة زينب: "الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم"، لكن السيدة زينب ردَّت بثقة: "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس تطهيرًا.. فضح الفاجر وكذب الفاسق وهو غيرنا". حين قابلت يزيد بن معاوية وجهًا لوجه، استفزته، وقالت له: "خرجت من الملة، واخترت دينًا غير ديننا"، فزاد غضبه، فردَّت عليه وهو يعبث برأس الحسين الشهيد: "يا يزيد، أنت أمير تشتم ظلمًا، وتقهر بسلطانك، فكف عن الكلام".
الحسين من أبطال قصة عودة السيدة زينب إلى مصر، هناك من يقول إن رأسه دفنت هنا، فقد اصطحبت "حفيدة الرسول" أجزاءً من جسده إلى القاهرة حين قرَّرت أن تستقر على أرضها دون غيرها من بلاد الله الواسعة. وهناك من يقول إن جثمان "الحسين" بالكامل انتقل معها ليدفن في ضريحه القريب من شارع "المعز"، كرامة لآل بيت النبيّ. والقصة الثالثة تقول إنه لم يزر القاهرة حيًا ولا ميتًا، ولم ينزل شارع "المعز" أبدًا. أين الحقيقة إذًا؟.
ما يستقر في ضمير المصريين أن كل آل البيت مرَّوا من هنا، وانتهى بهم المقام في القاهرة، فهذه الأرض ليست مسكونة بالعفاريت فقط، وإنما ببصمات من نسل الرسول أيضًا. اختارت السيدة زينب القاهرة لتموت فيها، فقد عاشت ما لم تعشه امرأة، وقضت ما عليها، حتى نالت نورًا لا ينطفئ يطل من جسدها الهادئ، فمن يوقد شمعة فوق المقام لا يريد أن تنير قبر السيدة الطاهرة، وإنما ينتظر منها أن تنير له حياته.
من بين القصص الكثيرة جدًا التي تروى عن السيدة زينب، أنها سمعت من عابر سبيل لا يعرفها عن محبة أهل مصر "غير المبرَّرة" لآل بيت رسول الله، فطلبت أن تزور القاهرة، ومن يومها أصبحت "السيدة الأولى"، ولم تسلم من طمعهم في البركة، ولا محبتهم لرائحة "دم الحسين"، ولا يسألون ما أتى بها إلى هنا، يكفي أن بعضًا من عطر الرسول يسكن أرضهم.
اقرأ/ي أيضًا: