كيف تتعامل السلطات في مصر مع قطاع حيوي يخدم ملايين من المصريين مثل القطاع الصحي بخدماته الحكومية المقدمة من القطاع العام؟ وما هي الرسالة التي تقدمها الحكومة المصرية من خلال التخفيض المستمر لميزانية قطاع الصحة في مصر؟ و كم يبلغ نصيب الفرد المصري من القطاع الصحي في العام الواحد؟
تتسبب أمراض القلب والأوعية الدموية والسكري والسرطان والجهاز التنفسي، في 82% من حالات الوفاة في مصر
الإجابات على هذه الأسئلة وغيرها نجدها فيما تخلقه السلطات المصرية من مشكلات بشكل مستمر مع قطاع الصحة والعاملين فيه، وبالتخفيض غير الدستوري لميزانية قطاع الصحة من الموازنة العامة. وقبل إلقاء الضوء على حال القطاع العام الصحي في مصر، من المهم الإشارة لبعض الأرقام والإحصائيات الهامة المتعلقة بالسكان في مصر، وبالتالي مدى احتياجهم للخدمات الصحية، وتحليل هيكل الخدمات الصحية والتأمينية في مصر لتقديم فهم شامل لقضية القطاع العام الصحي في مصر.
اقرأ/ي أيضًا: الرعاية الصحية في مصر.. تدهور وحلول تنتظر التطبيق
الصورة الكاملة بالأرقام والإحصائيات
مصر هي أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان، فقد بلغ عدد سكانها عام 2015 حوالي 91 مليون نسمة، ويتصاعد معدل الزيادة السكانية في مصر بما نسبته 22% سنويًا. وتنقسم مصر إداريًا إلى 27 محافظة، على رأسها القاهرة العاصمة التي يتجاوز عدد سكانها 19 مليون نسمة، بكثافة سكانية تقترب من 10% تقريبًا من إجمالي عدد سكان البلاد، فيما يعيش حوالي 95% من سكان مصر على ضفاف النيل وفي محافظات الدلتا.
أما بالنسبة للتركيبة السكانية نفسها فإن جيل الألفية وما بعده يشكل ما نسبته 74.3% من السكان، وهي نسبة كبيرة جدًا، تعني أن الغالبية العظمى من المصريين هم من فئة الشباب. ومع ذلك فإنه من المهم الإشارة إلى أن الإنفاق على الرعاية الصحية يزيد بعد سن الـ40، حيث تضم مصر 24 مليون نسمة فوق سن الـ40 ومن المحتمل أن يزيد هذا العدد ليصل إلى 55 مليون نسمة في عام 2050. وهو ما يؤدي إلى زيادة الطلب على مؤسسات الرعاية الصحية ذات مرافق الرعاية والتأمين الصحي طويل الأجل.
وجدير بالذكر أن نسبة المؤمّنين صحيًا في مصر تصل إلى 57%، يحصلون على تأمينهم الصحي من شركات تأمين عامة، إضافة إلى عدد قليل من شركات التأمين الصحي الخاصة.
وترتفع في مصر بشكل كبير ما تعرف بأمراض أنماط الحياة، مثل مرض السكري ويعاني منه نسبة تصل إلى 7% من السكان، في حين يعاني حوالي 5% من المصريين من ارتفاع ضغط الدم، بينما يعاني أكثر من 33% من سكان مصر من السمنة.
ومن المهم القول بأن الأمراض غير المعدية، هي المتسبب الأكبر في وفاة المصريين، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والسكري والسرطان وأمراض الجهاز التنفسي المزمنة، إذ تشير التقديرات إلى أن هذا النوع من الأمراض يتسبب في 82% من إجمالي حالات الوفاة، و67% من حالات الوفاة المبكرة.
وفي حين أن نسبة الوفيات بالأمراض المعدية انخفضت بدرجة كبيرة، إلا أن مشاكل متعلقة بمياه الشرب وخدمات الصرف الصحي والتلوث، أدت إلى زيادة مهولة في الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي سي.
إنفاق أقل مما ينص عليه الدستور
يُعتبر المصدر الأول للرعاية الصحية في مصر القطاع العام أو المشافي والمراكز الصحية التابعة لوزارة الصحة. في 2014 كان إجمالي عدد المستشفيات في مصر 2.62 مستشفى بـ131 ألف سرير، تخدم 5.91 مليون نسمة.
وصحيح أن القطاع العام يمثل الجزء الأكبر من الخدمة الصحية في مصر، حيث يوفر 57 ألف سرير و268 مستشفى، إلا أن هذه الأرقام تظل ضئيلة بالنسبة لعدد السكان، وهذا ما تكشفه نسبة الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة في مصر.
تخصص الحكومة المصرية على قطاع الصحة، نسبة من الموازنة أقل مما ينص عليه الدستور بما يقرب من النصف
في ميزانية 2014/2015 انخفضت نسبة الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة بما هو أدنى من المقرر في الدستور، إذ يقر الدستور نسبة 3% من إجمالي الموازنة العامة، على أن تزيد تدريجيًا، غير أن نسبة الإنفاق على الصحة في ذلك العام بلغت 1.8% فقط!
اقرأ/ي أيضًا: استمرار أزمة الدواء في مصر.. خيوط متشابكة تنتهي إلى تقصير الدولة
كما كشف مدير المركز المصري للحق في الدواء، مجدي فؤاد، في تصريح صحفي، أن في موازنة 2018/2019، خصصت الحكومة 61.8 مليار جنيه لقطاع الصحة، ما يعد أيضًا أقل مما نص عليه الدستور المصري. وطبقًا لأرقام آخر موازنة، فإن نصيب الفرد المصري من الرعاية الصحية لا يتجاوز 37 جنيهًا شهريًا، وهو مبلغ لا يكفي زيارة واحدة للمستشفى.
وخالفت الحكومة المصرية، في الموازنة الجديدة، نصوص المواد 18 و19 و21 و23 من الدستور، وللعام الثالث على التوالي، وهي المواد المتعلقة بإلزام الدولة تخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي لقطاع الصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي.
كما خفضت الحكومة المصرية بند دعم التأمين الصحي والأدوية من ثلاث مليارات و828 مليون جنيه في موازنة العام الماضي، إلى ثلاث مليارات 34 مليون جنيه في الموازنة الجديدة، بنسبة تخفيض بلغت 13%، رغم الارتفاعات المستمرة في أسعار الدواء.
قانون التأمين الصحي الشامل.. دعاية للنظام على حساب المواطن
في كانون الثاني/يناير الماضي، وخلال كلمته في مؤتمر "حكاية وطن"، قدم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قانون التأمين الصحي الشامل الجديد باعتباره أحد أهم إنجازاته في ولايته الأولى.
وكان البرلمان المصري قد وافق على قانون التأمين الشامل في كانون الأول/ديسمبر 2017. وبدأ وزارة الصحة في تطبيق أولى مراحله في تموز/يوليو الماضي. ومن المفترض تنفيذ القانون بأكمله على ست مراحل، كل مرحلة تشمل خمس محافظات، خلال فترة تمتد لـ15 سنة، على أن تكون بداية تنفيذ المشروع في محافظات بورسعيد والإسماعيلية والسويس وشمال سيناء وجنوب سيناء.
غير أن نقابة الأطباء ترى أن القانون يزيد من الأعباء التي يتحملها المواطن فيما يتعلق ببند التأمين الصحي، حيث يُطلب منه أن يدفع مصاريف تبلغ 10% من رسوم التحاليل والأدوية عند حاجته للخدمة الطبية، على الرغم من دفعه اشتراكًا شهريًا من دخله لصالح التأمين الصحي.
كما بدت البنود التي تحدد الفئات التي ستستفيد من القانون، من خلال تكفل الدولة بدفع اشتراكاتها؛ مبهمة وغير واضحة. وفي بلد ترتفع فيه نسبة الفقر بحيث تصل إلى 27.8% من إجمالي السكان، فإن الأطباء يؤكدون أن هناك فئات معدمة لا تملك ثمن تذكرة دخول المستشفى، وهو ما يعني أن كثيرًا من المرضى لن يستطيعوا دفع الاشتراكات الشهرية للتأمين من جيوبهم.
وعلى الرغم من الدعاية التي يقدمها النظام المصري للقانون بصفته يمثل دعمًا وحمايةً للفقراء ومحدودي الدخل، فإن هناك نصًا في قانون التأمين الصحي الشامل يفتح أبواب الجحيم على المستشفيات الحكومية ذات التكلفة الأقل والأقرب لجيوب الفقراء، حيث يشترط القانون الجديد معايير -لم تُحدد بعد- في المؤسسات الصحية التي ستندرج تحت مظلته، وهو ما يعني استبعاد مؤسسات حكومية تقدم خدمات متواضعة في حدود الإمكانات التي توفرها وزارة الصحة. وستكون النتيجة هي الاعتماد بشكل أكبر على المستشفيات الخاصة، وخصخصة نظيرتها الحكومية بشكل جزئي أو كلي.
هناك انسحاب تدريجي للحكومة المصرية من الإنفاق على الصحة، بخفض موازنتها باستمرار وخفض دعم الدواء
وهكذا فإن هناك سحبًا تدريجيًا للإنفاق الصحي الحكومي، تعتمده السلطات المصرية من خلال عدة مسارات، أولها الخفض المستمر لبند الصحة في الموازنة العامة التي تعتمدها الحكومة المصرية بالمخالفة للدستور، بالإضافة إلى خفض دعم الدواء في مصر والذي وصل إلى أدوية أمراض مزمنة ومسكنات يتم استخدامها بشكل دوري من قبل المرضى. وفي النهاية، تعتمد الدولة قوانين تضع العبء الأكبر من التأمين الصحي على جيوب المواطنين، الذين قد لا يجد بعضهم قوت يومهم، فضلًا عن الدواء المهم اللازم لاستمرار الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: