لطالما اقترحت الدراسات العلمية أن تناول المشروبات الكحولية باعتدال أفضل للصحة في الغالب الأعمّ من الحالات مقارنة بعدم الشرب على الإطلاق، وأنه قد يكون عاملًا في إطالة العمر.
غير أن مراجعة جديدة لأكثر لأكثر من 40 عامًا من الأبحاث في هذا المجال قد خلصت إلى أن العديد من تلك الدراسات مشوبة بالكثير من العيوب، وأن العكس هو الصحيح: تناول الكحول ولو باعتدال فيه ضرر على الصحة.
تعرضت الأبحاث التي تربط بين العافية والتعاطي المعتدل للكحول لانتقادات متزايدة مؤخرًا، لاسيما بعد رصد أثر قطاع الكحول وصناعته على تمويلها
وقد وجدت المراجعة المنشورة في مجلة "JAMA Network Open" أن مخاطر الوفاة المبكرة تزداد بشكل ملحوظ بالنسبة للنساء بمجرد شرب 25 جرامًا من الكحول يوميًا، وهذا أقل مثلًا من مشروبي كوكتيل، أو قدح بيرة عادي (350 مل)، أو كأس من النبيذ (150 مل). كما تزداد المخاطر التي يتعرض لها الرجال بشكل كبير عند تناول 45 جرامًا من الكحول يوميًا، أي ما يزيد قليلاً عن ثلاثة مشروبات.
التقرير الجديد، الذي حلل أكثر من 100 دراسة على ما يقرب من خمسة ملايين بالغ، لم يكن مصممًا لتطوير التوصيات المتعلقة بالشرب وتناول الكحول، بل كان يهدف بالأساس إلى تصحيح المشكلات المنهجية التي ابتليت بها العديد من الدراسات القديمة، والتي بدت متفقة على أن الشرب باعتدال يقلل من خطر الوفاة المبكرة، بغض النظر عن الأسباب، بما في ذلك تلك التي لا تتعلق بتعاطي الكحول.
فمعظم تلك الدراسات موضوع المراجعة الجديدة كانت قائمة على الملاحظة (Observational)، مما يعني أنها تنظر إلى بعض الروابط بين عينات الدراسة، ولكنها قد تكون مضللة في نتائجها وتوصياتها، إذ إنها لا تقوم على اعتماد البرهنة على العلاقات بين السبب المفترض والنتيجة. وقال الباحثون المشرفون على المراجعة، بحسب ما نقلت نيويورك تايمز، إن الدراسات القديمة على سبيل المثال لم تأخذ في اعتبارها مثلًا أن معدل العمر الأعلى لدى من يشربون الكحول باعتدال قد يكون مرتبطًا بالعديد من العادات الصحية الأخرى التي يتمتعون بها (مثل الامتناع عن التدخين أو ممارسة الرياضة)، أو أنّ معدل العمر الأقل لدى الممتنعين عن تناول الكحول كان لدى عينات دراسة كانوا أنفسهم يشربون الكحول سابقًا، ثم توقفوا عن ذلك بعد تعرضهم لمشاكل صحية.
ووفق تيم ستوكويل، الباحث في المعهد الكندي لأبحاث التعاطي (Canadian Institute for Substance Use Research)، والذي شارك في هذه المراجعة، فإن عقد المقارنة بين عينة من الأشخاص الذين لديهم مشاكل صحية ولا يتناولون الكحول، بأولئك الذين يتناولون الكحول ولديهم عادات صحية جيدة،قد يدفع البعض إلى الربط بين ارتفاع معدل العمر وتناول الكحول، بمجرد ملاحظة هذا العامل المشترك، دون أن يكون هو السبب المباشر لذلك بالضرورة.
كما يشير الدكتور ستوكويل، إنه بمجرد تصحيح مثل هذه الأخطاء المنهجية وتحديدها، ستبدو المنافع المفترضة لتناول الكحول ضئيلة بشكل كبير جدًا، كما أنها لن تكون قائمة على أي دليل معتبر إحصائيًا.
فالمقارنة بين من يشربون الكحول باعتدال مع غيرهم كانت معيبة لأسباب عديدة، من بينها مثلًا أن الأشخاص الذين يجتنبون الكحول بشكل مطلق أقلية، كما أن أولئك الذين لا يمتنعون عن تناول الكحوليات بشكل كامل لأسباب دينية هم أكثر عرضة للإصابة بمشاكل صحية مزمنة كما قد يكونون من طبقة منخفضة الدخل.
من جهة أخرى، فإن الأشخاص الذين يشربون باعتدال هم عادة معتدلون في جوانب حياتهم المختلفة، كما يميلون إلى أن يكونوا من ذوي الدخل المرتفع، وهو ما يعني فرصًا أفضل لممارسة الرياضة واتباع نظام غذائي صحي، وأقل عرضة لزيادة الوزن.
فائدة الشرب باعتدال.. تاريخ الفكرة
تعود فكرة أن تناول الكحول باعتدال قد يكون مفيدًا للصحة إلى عام 1924، حين نشر عالم أحياء بجامعة جونز هوبكنز يُدعى ريموند بيرل رسمًا بيانيًا انحنائًا يوضح المخاطر المعروفة لاستهلاك الكحول بإفراط، مثل أمراض الكبد وحوادث السيارات، وأثر ذلك على معدل العمر مقارنة بالأشخاص الذين لا يشربون الكحول أبدًا. في منتصف المنحنى، كان الأشخاص الذين يشربون باعتدال، والذين كان لهم فرص وفاة أقل من جميع الأسباب مقارنة بالفئتين الأخريين.
وفي العقود الأخيرة الماضية، تزايد الحديث عن فائدة النبيذ، وخاصة الأحمر، على الصحة وإطالة العمر، وانتشرت العديد من المقالات والتقارير الإعلامية عما فيه من مضادات أكسدة واقية تسمى"ريسفيراترول"، توجد أيضًا في التوت الأزرق والتوت البري.
وجدت دراسات عملية أكثر رصانة أن استهلاك الكحول ولو باعتدال، بما في ذلك النبيذ الأحمر، قد يزيد من خطر الإصابة بسرطان الثدي
لكن هذه الفرضية التي تربط بين العافية والتعاطي المعتدل للكحول قد بدأت تتعرض لانتقادات متزايدة مؤخرًا، لاسيما بعد رصد أثر قطاع الكحول وصناعته على تمويل مثل هذه الأبحاث، كما وجدت دراسات عملية أكثر رصانة أن استهلاك الكحول ولو باعتدال، بما في ذلك النبيذ الأحمر، قد يزيد من خطر الإصابة بسرطان الثدي، وسرطان المريء، وارتفاع ضغط الدم، إضافة إلى زيادة خطر الإصابة بمرض الرجفان الأذيني، وهو اضطراب خطير يؤثر على ضربات القلب.