كان لعالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم (1958 - 1917) دور كبير في تحليل ظاهرة الانتحار من المنظور الاجتماعي، أكثر منه من المنظور النفسي، فقسم في كتابه الذي عنّونه "بالانتحار" الظاهرة إلى أربعة أنواع.
بدأ الربيع العربي بانتحار شاب تونسي، هو محسن بوعزيزي، والآن يشهد الشارع العربي عدد لا نهائي من حالات الانتحار المتزايدة كل عام
الأول الانتحار الأناني، أي شعور الإنسان بالعزلة عن الاجتماع البشري الذي يدور حوله، من علاقات وروابط إنسانية ومنافع متبادلة، فيؤدي ذلك إلى تنامي المنفعة الشخصية عند الفرد على حساب أي منفعة أخرى، على عكس النوع الثاني الذي يسميه "الإيثاري"، وهو نوع ينظر الإنسان فيه إلى احتياجات الاجتماع من حوله أكثر تحدقًا من احتياجه الفردي. غير أن هذه المجتمعات التي قدم لها الإنسان الإيثاري كل اهتماماته قد تدفعه إلى الانتحار، فيما لو حدث خلل في نظرته إلى هذا المجتمع. بينما كان المعياران الثالث والرابع عند دوركايم أكثر تقاربًا، فَالانتحار اللامعياري هو الذي يظهر عند نشوء اضطراب في سلوك وضوابط المجتمع، كإطلالة الحداثة على مجتمعٍ ريفي أو كساد اقتصادي مفاجئ أو انتعاش دون تدرج، فيشعر الإنسان بانعدام جذوره وفقدان الهوية.
الأمر نفسه يتكرر أحيانًا في النوع الرابع الذي أطلق عليه دوركهايم اسم "الانتحار القدري". وهو النوع الذي يفضل فيه الإنسان الانتحار على أن يستمر في وجوده داخل الحياة الاجتماعية متمثلة في "النظام والمجتمع" اللذين يراهما أدوات قمع وتحديد.
اقرأ/ي أيضًا: السياسة في مصر تدفعني نحو الانتحار
شباب مصر.. من الشنق إلى عجلات المترو
بدأ الربيع العربي بانتحار شاب تونسي، هو محسن بوعزيزي، أما الآن يشهد الشارع العربي عددًا لا نهائيًا من حالات الانتحار المتزايدة كل عام. كانت الشابة المصرية زينب المهدي التي قررت أن تختار الموت شنقًا في غرفتها في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2014، مثالًا مبكرًا على هذا التحول في معنى الانتحار، وانتقاله من كونه فعلًا احتجاجيًا، انبنت عليه يوتوبيا عربية كاملة، إلى فعل يأس وانسحاب من الصراع.
كتبت زينب على صفحتها في موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك: "مفيش أي نصر جاي، بس بنضحك على نفسنا عشان نعرف نعيش". قاصدة بعبارتها قوة بطش النظام المصري على معارضيه، وأنه يتمكن مع مرور كل يوم، من فرض استبداده وجبروته واستقراره. بعد ذلك بما يقرب من عام، كانت الصورة التي التقطها المارُّون على طريق القاهرة - الإسماعيلية الصحراوي مفزعة، إذا قام الشاب فرج رزق بشنق نفسه فوق إحدى اللوحات الإعلانية على الطريق.
كان فرج يمُرُّ بأزمة مالية طاحنة دفعته إلى الفرار إلى الموت، وهو ما يفسره أستاذ علم النفس توماس جونز، باعتباره شعورًا عند الشخص المنتحر بقيمته الذاتية المتدنية وعجزه عن تلبية طلبات من يعولهم، مما يجعله في حالة دائمة من التوتر والقلق، ما يؤدي به إلى الانتحار. مع ذلك، فإن حالة فرج الذي اختار الانتحار في الشارع، كانت تمثل شيئًا من التقاطع بين الانسحاب من الفضاء العام، واقتحامه من خلال الموت.
أما شريف البراموني صحفي مصري في جريدة التحرير، فقد حاول إشعال النار في جسده في وقفة احتجاجية أمام نقابة الصحفيين لولا تدخل زملائه الذين قاموا بإجهاض محاولته. وكما توضح الصحفية المصرية في نفس الجريدة، ياسمين سعد، لـ"ألترا صوت"، فإنها تفاجئت هي وفريق العمل بقرار إيقاف عملهم في الجريدة، الذي أدى إلى حالة نفسية سيئة يسودها الإحباط، ما دفع زميلهم شريف يرى أن محاولة انتحاره هي بمثابة قرار احتجاجي على الفصل التعسفي للصحافيين في مصر من قبل ملاك الصحف وإداراتها.
تتشابك أسباب انتحار الشباب في مصر، بين كونها خطوات للاحتجاج أو للتعبير عن اليأس. في تموز/ يوليو الماضي سجلت محطة مترو أنفاق القاهرة ثلاث حالات لشباب ألقوا بأنفسهم تحت عجلات عربة قطاع الأنفاق، وقد فسر الدكتور جمال فيروز، استشاري الطب النفسي، هذه الظاهرة بأن المنتحرين الثلاثة من أعمار متقاربة، وبالتالي تتشابه عندهم الخلفية الذهنية " Back mınd" في أسباب الانتحار وسبل الفعل ذاته. ووضح فيروز أن المقبلين على الانتحار هم في عمر المراهقة، ما يعني أنهم يتعرضون لمشاكل وضغوط عاطفية ومالية، تسبب لهم فقدان الأمل في المستقبل وانعدام صورة الحياة أما أعينهم.
إحصائيات للظاهرة
لم تكن الحالات المذكورة سوى أمثلة على ظاهرة واسعة. حيث إحصائيات للظاهرة أعدت مؤسسة "دفتر أحوال" المعنية برصد الظواهر الاجتماعية تقريرًا يحصي حالات الانتحار في مصر منذ عام 2011 إلى عام 2017، وبلغ مجمل الحالات 1746 منها 283 واقعة شروع فقط، بينما سجل عام 2017 العدد الأكبر من الوقائع بعدد 422 منها 62 حالة شروع فقط. في حين كان العام الأقل هو عام 2011 بعدد 152 حالة من بينها 40 واقعة شروع فقط.
اقرأ/ي أيضًا: أشهر محاولات انتحار في المغرب.. الظلم والبطالة هما العنوان
وعلق الباحث المصري أحمد فريد مولانا، على هذه النتائج في حديثه لـ"ألترا صوت"، قائلًا إن "الاضطرابات النفسية مرتبطة بالمناخ العام للبيئة التي يحيا فيها الإنسان، ومدى وجود قضايا يهتم بها ويعيش لها، وكلما انعدم شعور المرء بذاته وبقدرته على أداء دور نافع ف الحياة الاجتماعية بالتوازي مع انسداد المناخ العام وانتشار الفساد والمحسوبية، وغياب فرص للتقدم والتطور بالتوازي مع الفراغ الروحي، زاد شعوره بعدم أهميته الشخصية في الحياة، فتسيطر عليه مشاعر الاكتئاب واليأس، ومن ثم يعد الانتحار خلاصًا له من معاناته الواقعية".
تتشابك أسباب انتحار الشباب في مصر، بين كونها خطوات للاحتجاج أو تعبيرًا عن اليأس
لذا كانت 2011 مليئة بأجواء الأمل والحيوية والقدرة على التغيير، حسب مولانا، بينما كانت الأعوام اللاحقة للانقلاب مفعمة بالسوداوية والقمع والتنكيل والتدهور الاقتصادي والاجتماعي والروحي، وانسداد آفاق التطوير، فزادت الأمراض النفسية.
واستخدم المنتحرون وفقا للتقرير الطريقة الأكثر شيوعًا في الانتحار ألا وهي الشنق بمعدل 650 واقعة، تليها القفز من أماكن عالية بإجمالي 311 واقعة، أما تبيان التقرير لرصد النطاق الجغرافي فقد تبين أن محافظتي القاهرة والجيزة هم الأكثر بإجمالي عدد 546 واقعة منها 92 واقعة شروع فقط، بينما جاءت المحافظات الحدودية البعيدة عن متناول السلطة في ذيل المعدلات، مثل محافظتي جنوب وشمال سيناء بمعدل 5 وقائع فقط.
بينما أوضح التقرير أن أغلب الحالات كانت من البالغين من الرجال أكثر من النساء بعدد 1245 واقعة، مقابل 501 واقعة من النساء، وكانت الفئة الأكثر إقبالًا على الانتحار هي من الطلاب، وتقدر بـ287 واقعة تليها ربات المنزل بـ 219 واقعة ثم يأتي العمال.
انتحروا بعيدًا
تأتي حالة الانتحار تلو الأخرى، بينما يقف النظام السياسي في مصر شاهدًا على تلك الحالات، وسببًا رئيسيًا من أسباب تزايد أعدادها
في هذا السياق من الإهمال، أثار أحمد عبد الهادي، المتحدث باسم هيئة مترو الأنفاق، جدلًا واسعًا، عندما صرح أن المترو ليس مكانا للانتحار، مطالبًا من يريد الانتحار أن يبتعد عن المترو نظرًا لتعطله بعد الواقعة عدة ساعات، وهو ما يُكبد الهيئة خسائر باهظة. أما المؤسسة الدينية، فتنشغل بالحكم على فعل الانتحار من الناحية الشرعية. عطفًا على المؤسسات الثقافية، التي تستهدف شرائح محددة من الشباب، في مؤتمرات لمن يرضى عنهم النظام.
اقرأ/ي أيضًا: