باتت مجموعة المتطوعين المعنيين بمهام الإنقاذ في سورية، والتي تعرف باسم "الخوذ البيضاء" واسمها الرسمي "الدفاع المدني السوري"، هدفًا لحملة تشويه غير اعتيادية، بربطها بتنظيم القاعدة. وفي تقرير مُطوّل لها، كشفت صحيفة الغارديان البريطانية، كيف نشأت وانتشرت هذه الحملة الدعائية المناهضة للخوذ البيضاء، عبر شبكة من المؤمنين بنظريات المؤامرة ومن اللجان الإلكترونية المدعومة من موسكو. في السطور التالية ترجمة بتصرف لهذا التقرير.
تُعد الخوذ البيضاء، التي تعرف أيضًا باسمها الرسمي "الدفاع المدني السوري"، منظمة إنسانية تتكون من 3400 متطوع -وهم مجموعة ممن عملوا سابقًا كمعلمين ومهندسين وخياطين ورجال إطفاء وغير ذلك من المهن- يهرعون لإخراج المواطنين من أسفل الركام عندما تمطر القنابل فوق رؤوس وبيوت المدنيين السوريين. ويُعزى إليهم إنقاذ حياة آلاف المدنيين خلال الحرب المستعرة والمستمرة في البلاد.
رغم دورها الإنساني البارز والمؤثر في سوريا، إلا أنّ الخوذ البيضاء تتعرض لحملة دعائية مناهضة تصورها على أنها ذراع للقاعدة
كما فضحوا أيضًا، عبر مقاطع فيديو بُثت مباشرةً، جرائم الحرب، بما في ذلك الهجوم الكيميائي الذي نفذه نظام الأسد في نيسان/أبريل الماضي على بلدة خان شيخون.
اقرأ/ي أيضًا: من يقف وراء الاعتداءات المتكررة على متطوعي الخوذ البيضاء في سوريا؟
وقد فاز فيلم وثائقي أنتجته نتفلكيس حول أعمالهم في سوريا، بجائزة الأوسكار، ورشحت المجموعة نفسها لنيل جائزة نوبل للسلام مرتين على التوالي. وعلى الرغم من الاعتراف والتقدير الدولي المؤكد لهذه المنظمة، إلا أنّ هناك رواية مضادة روجت لها مجموعة من الأشخاص المسموعين الذين يكتبون في مواقع إخبارية غير معروفة بدرجة كبيرة، ويناهضون ما يُسمونه بـ"أجندة وسائل الإعلام الرئيسية".
وتنسجم آراء هؤلاء مع مواقف روسيا والنظام السوري، وقد استطاعوا جذب أعدادٍ كبيرة من جمهور الإنترنت، تتزايد بمرور الوقت بالاعتماد على شخصيات رفيعة من من المحسوبين على اليمين، وبظهور هؤلاء وترديد روايتهم عبر القنوات الروسية، بالإضافة إلى جيش من اللجان الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي.
يمكن النظر إلى الطريقة التي استهدفت بها الآلة الدعائية الروسية الخوذ البيضاء، على أنها نموذجٌ منسقٌ لدراسة حالة لحروب المعلومات السائدة في الوقت الحالي، كما توضح كيف تطفو فقاعات الشائعات ونظريات المؤامرة وأنصاف الحقائق، فوق خوارزميات البحث على مواقع يوتيوب وغوغل وتويتر.
قال ديفيد باتريكاراكوس، مؤلف كتاب "حرب في 140 حرفًا: كيف تعيد وسائل التواصل الاجتماعي تشكيل الصراع في القرن الحادي والعشرين"، إنّ "هذا هو جوهر الحملات الدعائية"، يُشير إلى التشويش على كل قضية بالترويج للعديد من الروايات التي تجعل الناس غير قادرين على تمييز الحقيقة عندما يرونها".
الحرب الهجينة
بدأت الحملة لتشويه الخوذ البيضاء في نفس الوقت الذي بدأت فيه روسيا تدخلها العسكري في سوريا في 2015، لتدعم نظام الأسد، عبر قصف المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. وبدأت على الفور وسائل إعلام روسية، مثل روسيا اليوم وسبوتنيك، في الادعاء الزائف بأن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) كان الهدف الوحيد لهذه الهجمات. وأثارت الشكوك حول قصف البنية التحتية ومواقع المدنيين.
وقد جمعت نفس الآلة الدعائية مجموعة ثانوية من النشطاء والمدونين والباحثين المناهضين للولايات المتحدة، الذين يعتقدون أن الخوذ البيضاء إرهابيون، مانحة إياهم منصة عبر التلفزيون الرسمي، فضلًا عن الترويج للمقالات التي يكتبونها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من أنّ روايات هؤلاء النشطاء والمدونين تفتقر بشكل ملحوظ للمصادر، إلا أنّه ليس ثمة دليل على أنّهم يتعمدون نشر معلومات مُضللة!
يصف سكوت لوكاس، أستاذ السياسات الدولية بجامعة بيرمنغهام الحملة كلها بأنها "حملة دعائية تحريضية"، لكنه قال إن بعضًا من المشاركين لا يدركون أنهم يُستخدمون باعتبارهم بيادق فوق رقعة شطرنج، مُضيفًا: "إن الحملة الدعائية الأكثر نجاعة تحدث عندما تجد شخصًا يؤمن بها ثم تمنحه الدعم؛ إذ إنك لا تستحدثهم من العدم".
لماذا الخوذ البيضاء؟
تؤدي منظمة الخوذ البيضاء دورين في سوريا، فيتمحور الدول الأول حول عمليات الإنقاذ، والتي تتمثل في تقديم خدمات الإسعاف وخدمات مكافحة الحرائق، والبحث والإنقاذ في مناطق الصراع التي دُمرت فيها البنية التحتية. بينما يضطلع الدور الثاني بتوثيق ما يحدث داخل البلاد عبر الكاميرات المحمولة والمثبتة فوق خوذاتهم.
وبحسب كريستيان بينيديكت، مدير الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية، والمتخصص في الشأن السوري، فإنّ "هذا هو الشيء الذي لم يزعج نظام الأسد والسلطات الروسية وحسب، بل أزعج أيضًا عديدًا من مروجي الدعاية التي تدور في فلكهم"، يقصد عمليات التوثيق التي يقوم بها أعضاء الخوذ البيضاء.
وساعدت مقاطع الفيديو التي يصورها أعضاء الخوذ البيضاء، منظمات حقوقية مثل العفو الدولية وغيرها، على إثبات صحة الشهادات التي يحصلون عليها من الناس عبر الهاتف والتطبيقات الذكية، إذ تسمح المجموعة التطوعية لهذه المنظمات بتحري آثار الغارات الجوية والتحقق ما إذا جرى استهداف المدنيين، وما إذا كان هناك أي تواجد عسكري أو نقاط تفتيش. يصف بينيديكت هذا المجهود، بقوله: "إنه بالفعل أمر مُدمّر لرواية الحرب التي تروج لها روسيا ونظام الأسد".
كانت مقاطع الفيديو التي التقطتها منظمة الخوذ البيضاء هي التي وثقت الهجوم الكيميائي على خان شيخون في نيسان/أبريل، والذي تسبب في مقتل 83 شخصًا كان ثلثهم من الأطفال. وخَلُص محققو الأمم المتحدة المعنيون بجرائم الحرب، إلى أن الهجوم نفذه النظام السوري ضد شعبه.
في المقابل، استمرت وسائل الإعلام الروسية وشبكة من المواقع الإخبارية البديلة المؤيدة، في التشكيك في النتائج التي توصل إليها المحققون، واصفين إياها بـ"غير المنطقية" و"المختلقة عمدًا" عن طريق المسلحين. فيما ردد موقع اليمين البديل "Infowars"، مسألة نظرية المؤامرة، ووصف الهجوم بأنه من تدبير منظمة الخوذ البيضاء، التي وُصفت بـ"مجموعة تابعة للقاعدة يمولها جورج سوروس". لم تحصل الخوذ البيضاء على أي تمويل من جورج سوروس أو أي من مؤسساته على كل حال.
وتضم المجموعة الأكثر إزعاجًا من المشككين في تحقيقات الأمم المتحدة، المدوِّنة فانيسا بيلي، وهي ابنة دبلوماسي بريطاني سابق كانت قد زارت سوريا لأول مرة في تموز/يوليو 2016، بالإضافة إلى محاضرة بارزة في جامعة سيدني تدعى تيموثي أندرسون، والتي وصفت الهجوم الكيميائي على خان شيخون بـ"الخدعة". وهناك أيضًا إيفا بارتليت، وهي كاتبة وناشطة كندية، قالت إن الخوذ البيضاء نظموا عمليات إنقاذ عن طريق تدوير الضحايا وإعادة استخدامهم، وهو ادعاء ثبت كذبه عن طريق موقع سنوبس والقناة الرابعة البريطانية.
قال سكوت لوكاس: "إنهم يبررون ما لا يمكن تبريره. فلديهم مجموعة من المواقع التي ستنشر أي شيء غير منطقي وسوف تُظهرهم روسيا اليوم على التلفاز".
ولطالما نجحت الاستراتيجية الروسية في تشكيل المحادثات التي تدور عبر الإنترنت حول الخوذ البيضاء. فمن خلال التلاعب بخوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي عبر نشر سيل من المحتوى الذي تعززه البوتات والحسابات المزيفة وشبكة من المحرضين، يستطيع مروجو الحملات الدعائية أن يخلقوا توافقًا مصطنعًا للآراء، يعطي شرعية لوجهات النظر الهامشية. وحتى القنوات الروسية الرسمية، مثل حسابات سفارة روسيا في بريطانيا، تنشر الميمات التي تكذب ما توثقه المنظمة.
قال سام وولي، الذي يدرس الحملات الدعائية المُحَوْسبة في جامعة أوكسفورد: "إذا تصفحت تويتر بحثًا عن الخوذ البيضاء، ستجد أن كثيرًا من المحادثات الأخرى تساويهم بداعش، وتصفهم بالإرهابيين. يبدو الأمر كما لو أنهم الأشخاص السيئون"، مُوضحًا: "جميعها جزءٌ من جهود لنزع شرعية الجهود الغربية الداعية لاستقرار سوريا"، فيما أضافت زميلته سامانثا برادشهاو: "كلما زاد حجم الإرباك، زادت سهولة التلاعب بالناس".
خريطة الهجوم المعلوماتي على الخوذ البيضاء
تحدثت الغارديان إلى عديد من الباحثين الذين يدرسون انتشار التضليل والحملات الدعائية عبر الإنترنت، والذين توصلوا إلى دلائل تشير وجود حملة تأثير روسية محددة الأهداف ضد الخوذ البيضاء.
بعض المشاركين في الحملة التحريضية ضد الخوذ البيضاء، لا يُدركون أنهم يُستَخدَمون فيها كقطع شطرنج
طوّر "فيل منكزر"، أستاذ علوم الحاسوب بجامعة إنديانا، أداة تسمى "Hoaxy"، كي يرسم خارطة لانتشار التضليل عبر شبكة الإنترنت. وبالبحث عن الخوذ البيضاء، تظهر مجموعة من المصادر التي أنتجت مئات الروايات التي تتعلق بالمنظمة، ويصفها منكزر بأنها "تشبه مصنعًا".
اقرأ/ي أيضًا: "الخوذ البيضاء"... أبطال حقيقيون وأمل مستحيل
ويُشار إلى نفس المجموعة بـ"الخبراء" في المقالات التي أعيد تجميعها وربطها لاستحداث مجموعة من المحتوى التي تحظى فيها مزاعم المؤامرة بمظاهر الشرعية.
قضت شركة "غرافيكا" للتحليل، أعوامًا في تحليل مجموعة من حملات التشويه الروسية. وفي بحث أجرته المجموعة الحقوقية التي تُسمى "من أجل سوريا"، توصل البحث إلى أن أنماط الشبكة الإلكترونية التي تضم 14 ألف مستخدم على موقع تويتر، يتحدثون عن الخوذ البيضاء، بدت "متشابهة للغاية"، وتضمنت عديدًا من حسابات التصيّد أو اللجان الإلكترونية (الترول) المؤيدة للكرملين، وبعضها أُغلق ضمن التحقيقات المتعلقة بالتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية.
وظهر أن حسابات أخرى تغرد بأكثر من 150 تغريدة في اليوم، وقد شوهد أكثر من 70 منها عن طريق الباحثين الذين يدرسون البوتات المشبوهة.
وتوصلت غرافيكا أيضًا إلى دليل على وجود تنسيق للتوقيت والتراسل حول الأحداث الهامة في دورة الأخبار المتعلقة بالخوذ البيضاء. وقد حددت شركة غرافيكا وتطبيق "Hoaxy" لصاحبه منكزر، كل منهما على حدة، أن بيلي، المدونة البريطانية، كانت من بين الناشرين الأكثر تأثيرًا للمحتوى المتعلق بالخوذ البيضاء.
وترتبط النتائج التي توصلا إليها أيضًا بعملٍ اضطلعت به كيت ستاربيرد، من جامعة واشنطن في سياتل، يُؤكد على أن بيلي والموقع الإخباري اليميني "21st Century Wire"، قد هيْمنا على محادثات تويتر بشأن الخوذ البيضاء خلال الأشهر القليلة الماضية، إضافة إلى وكالتي سبوتنيك وروسيا اليوم.
انتقدت بيلي مرارًا وتكرارًا الخوذ البيضاء من موقعها كمحررة في موقع "21st Century Wire"، الذي أنشأه باتريك هنينغسن، وهو محرر أيضًا في موقع "Infowars" السابق ذكره.
وفي عام 2016، أجرت بيلي لقاءً مع الأسد لساعتين في دمشق، كونها ضمن بعثة مجلس السلام الأمريكي. وقد وصفت اللقاء بأنّه أكثر الأوقات التي تفخر بها، في تدوينة على فيسبوك. كما دُعيت إلى موسكو لتتحدث عن "الحرب القذرة في سوريا"، وقد قابلت هناك كبار المسؤولين الروس بمن فيهم ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الأمريكي ، وماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية.
نموذج "تحدي الدمى"
لفهم عمل آلة الدعاية، عليك فقط أن تنظر إلى ما حدث عندما نشر الخوذ البيضاء نسختهم من "تحدي الدمى - MannequinChallenge"، وهو فيديو انتشر على الإنترنت يقوم فيه الأشخاص بتصوير أنفسهم بينما يتجمدون في منتصف العمل الذي يقومون به. صورت مجموعة الخوذ البيضاء نفسها خلال مراحل عملية إنقاذ منظمة، ونشرت الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعية مع هاشتاغ #MannequinChallenge.
في المقابل، قام المكتب الإعلام للقوات الثورية السورية، الموالي لنظام الأسد، باقتطاع الفيديو من سياقه، وإعادة نشره على أنّه دليل على أنّ المنظمة تستخدم ممثلين في عمليات إنقاذ مُفبركة، بهدف إظهار الروس ونظام الأسد بصورة سيئة، وفقًا لما حاول هذا المكتب الترويج له.
استغلت روسيا اليوم الأمر لإبرازه، مُستشهدةً ببيلي كـ"باحثة مستقلة" لتؤكد على أنّ الفيديو، الذي هو مقتطع من سياقه في الأصل، "يُغذي الشكوك حول المصداقية المشكوك فيها بالفعل، للمنظمة"، أو كما قالت.
وفي اليوم التالي كتبت بيلي مقالًا على "21st Century Wire"، قالت فيها إن الفيديو يسبب "شكوكًا واسعة النطاق، حتى بين الأنصار الداعمين، فيما يتعلق بصحة تقاريرهم المرئية التي يتم تحريرها وتعديلها كثيرًا"!
عادةً في الدعاية التحريضية، يتم اقتطاع صورة أو حدث من سياقه وترويجه كدليل على أن الآخر كاذب أو إرهابي كما حصل مع الخوذ البيضاء
ورغم أنّ الخوذ اليبضاء أصدرت لاحقًا اعتذارًا قالت فيه إنهم كانوا يأملون أن يُوصل هذا المقطع المصور الرعب الذي يعانيه السوريون للعالم الخارجي، إلا أنّ الفيديو، النسخة المقتطعة من سياقها، لا زالت منتشرة حتى الآن في الأوساط التي تحب نظريات المؤامرة.
اقرأ/ي أيضًا: