ربما من أكثر المفاهيم إشكاليةً في عالمنا المعاصر، أو في المنطقة العربية عمومًا، يأتي مفهوم الحرية في المراتب الأولى، إلى جانب مفاهيم ومصطلحات حديثة، دخلت إلى الحياة الاجتماعية التي طرأت عليها تغيرات متعددة المشارب، منذ منتصف خمسينات القرن الفائت، إلى أن وصلت إلى أقصى ذروتها في انتفاضات الربيع العربي، ليصطدم لاحقًا بجدار مصفح من الاستبداد.
عزمي بشارة: التحرر عملية ذهنية وعقلية تجعل الحرية في مجال ما حاجة يتوق الإنسان إلى تحقيقها
المفكر العربي عزمي بشارة، في بحثه الجديد "مقالة في الحرية"، الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يتناول مفهوم الحرية، من بوابة الفلسفة النظرية، ضمن سبعة فصول، مقدمًا رؤية نقدية لبعض المقاربات والتواصيف التي ارتبطت مع المصطلح.
اقرأ/ أيضًا: المركز العربي يقارب الذكرى المئوية للحرب العالمية
يرى عزمي بشارة في الفصل الأول، المعنون بـ"دلالات اللفظ ليست غريبة على العربية"، أن النهضويين العرب، حاولوا تمكين بعض التعاريف والتواصيف المرتبطة بالحرية في "التاريخ والفكر الإسلامي بأثر رجعي"، والتي تصل إلى أن فكرة التمكين هذه، جاءت من وجهين، أولهما "تجاهل الليبراليين العرب الأوائل تاريخية هذه الأفكار وحذف سياقات تطورها"، وثانيهما "تأويل الإصلاحيين الإسلاميين الأفكار بشكل يتسق مع العقيدة الإسلامية في حالات، أو تأويل العقيدة كي تتسع لهذه الأفكار".
يمضي بشارة في هذا الفصل قدمًا لمناقشة مفهوم الحريات الشخصية في واقع المجتمع العربي، والتي يلخصها في عصرنا الراهن على أنها حريات "شخصية، مدنية، وسياسية"، مضيفًا أن "موضع الحريات المقصودة كلها في الدولة، لا خارجها"، ويفرد حيزًا مهما في هذا الفصل، في حديثه عن "حرية البداوة"، التي طرحها عبد الله العروي، كون المفهوم في عصرنا الحالي يقدمها على اعتبار أنها "حرية الإرادة عند الأفراد"، رغم أن مفهومها الأدق يأتي من ناحية "عدم التبعية لسلطة خارج سياستها"، لأن مفهوم الحرية في القبيلة ليس فرديًا، بقدر ما يعني انتماء أفرادها إلى "قبيلة حرة"، ومن ثم ينتقل إلى تطور المفهوم لمعنى الحرية، عبر السنين التي تغيرت فيها معالم السياسة العربية، ونشأة الدولة الوطنية الحديثة، التي رافقها صعود الدولة الاستبدادية.
ويأخذ الفصل الثاني من البحث، "ليس الطير حرًا ولا يولد الناس أحرارًا"، منحًا جدليًا منذ بدايته، والذي يؤكد على أن "الطيور ليست حرة"، على عكس ما يصورها الأدب، ويضيف "لا حرية في الطبيعة"، ولا حتى "في الكائنات فوق الطبيعية"، لأن الإنسان وحده من يمتاز بها، فهو كائن أخلاقي وعاقل يستطيع التمييز بين الخير والشر، والخطأ والصواب، رغم أنه "لا يولد حرًا"، لأنها ليست معطًى طبيعيًا، مثل "قدرة البشر على التفكير".
ويعتبر بشارة أن الإنسان يكتسب "الحرية مع نمو الوعي والإرادة"، لأنها صيرورة تبدأ منذ لحظة اكتسابه للقدرات العقلية، فالتحرر من وجهة نظره "عملية ذهنية وعقلية تجعل الحرية في مجال ما حاجة يتوق الإنسان إلى تحقيقها"، ولهذا يعود ويصر على فكرة أن "الإنسان لا يولد حرًا"، وهو ما يقاربه في نهاية الفصل، على أنه "ليس صدفة أن تجتمع الحرية الطبيعية مع العقل"، في الفكر الليبرالي التأسيسي الذي يجعل الفرد يتنازل قليلًا عن حرياته لتكوين الكيان السياسي للمجتمع.
عزمي بشارة: التحديات التي تواجه المجتمعات العربية تتعلق بشكل أو آخر بمسألة الحرية واحترام عقل الإنسان العربي وإرادته
يقدم الفصل الثالث من البحث، "ملاحظات فلسفية لازمة"، والتي يرى فيها أن تأسيس بعض المنظرين لمفهوم الحرية على أسس "كوزمولوجية" هو مأزق فلسفي، لذلك نجد صاحب ثنائية "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" يذهب لمناقشة كانط وهايدغر واسبينوزا، وغيرهم الكثير، وفعليًا هذا نقاش آخر، سيفتح أمام القارئ أبوابًا جديدة من التساؤلات، في معظم الأفكار التي يستند إليها البحث.
اقرأ/ أيضًا: عبد الله محمود عدوي.. توابل البرامج التلفزيونية
يخلص بشارة في هذا الفصل إلى أن ازدياد مجالات الحرية جعل استقلال الإنسان يمتلئ بالمضمون، لأنها "تتحول من مفهوم لبنية أنطولوجية عامة للوجود الإنساني إلى شخصية إنسان عيني، له استقلاليته، أي لديه شخصية".
ويأخذ الفصل الرابع منحى تساؤليًا، وهو ما يظهر من عنوانه "الحرية: أهي سالبة أم موجبة؟"، والتي يرى أنها الاثنان في الوقت ذاته، فمبدأ الحرية لم يعد كافيًا بعد أن "استخدم تاريخيًا لقمع الحريات"، والتي يسوغ لها مثال أن حرية الشعوب، وتحولها لقيمة إيجابية، لأنها "استخدمت بلاغيًا في تبرير أنظمة دكتاتورية شعبوية الخطاب". يقول بشارة: "إن الحرية السالبة تنفي القيود"، مذكرًا بأنها "إن لم تتموضع في حريات موجبة، أي حقوق سياسية ومدنية تضمنها، فإنها تقود إلى الفوضى، أو تراوح في ظل نظام لا يقوم على حقوق المواطن فتبقى فيه الحريات معرضة للخطر".
"عن الانشغال الفلسفي بالحرية"، الذي اختير عنوانًا للفصل الخامس، يذهب الحديث إلى الإرادة وحرية الإرادة، وممارسة الإنسان لحريته، وحق محاسبته أخلاقيًا، والتي يحاكيها ضمن مسألتين، أولهما "نوع القوى التي تتحكم بالإرادة وتنفي حرية الاختيار"، وثانيهما "إذا كان ممكنًا معرفة هذه القوى وإدراكها أم لا"، والتي يرى أن هذا النقاش الفلسفي لم يأتِ بجديد.
لكنه في ركن آخر من الفصل، بعد أن يقدم نقاشًا للفكرة السابقة، يصل لفكرة أنه بوسع الأخلاق والفلسفة السياسية أن تأتي بجديد، فالحرية في النهاية ليست "قضية نظرية فلسفية في الفكر الليبرالي المعاصر، بل مسألة سياسية ومجتمع واقتصاد. وهي ملتصقة بالفرد الذي يعرف أنه مستقل ذاتيًا؛ أي يملك إرادة على ذاته".
أما الفصل السادس، "بعض الأسئلة العملية الكبرى"، فيرى فيه أن "التحديات التي تواجه المجتمعات العربية تتعلق بشكل أو آخر بمسألة الحرية واحترام عقل الإنسان العربي وإرادته"، لأنها ترتبط بالثقافة السائدة، والأيديولوجية الحاكمة في آن واحد، فالحقوق السياسية على سبيل المثال، لا يمكن الوصول إليها، إذا لم يرافقها ممارسات مرتبطة بالحرية مثل حق الرأي والتعبير، وغيرها من المفاهيم المعروفة على المستوى الفكري.
عزمي بشارة: ما عاد ممكنًا تخيل عدالة لا تنظم بين مبدأي المساواة والحرية
وإذا كانت حريات الأفراد كمواطنين شرط الديمقراطية الليبرالية، فإن الاعتراف بحريات الشخصية الاعتبارية لمؤسسة يفترض "أن يكون مشروطًا بقبولها مبادئ الحرية وباحترامها حريات الآخرين"، رغم أن من يعارضون منح الناس الحرية، دائمًا ما يلوحون "براية الوطنية في مقابل راية الحرية"، والتي يعتبرونها "مؤامرة خارجية"، ويقارن من هذا المنطلق بين قوى مختلفة الأيديولوجيات، في محاولتها فرض نمط حياة معين على الناس.
اقرأ/ أيضًا: "الطبقات والتراصف الطبقي" بحسب روزماري كرومبتون
وربما من هذا الاتجاه، نجده يشدد على أنه "لا تصح المساومة بالتنازل عن الحريات المدنية والسياسية في مقابل حماية نظام الاستبداد للحريات الشخصية، ذلك أن النظام الذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس اليومية الخاصة بذريعة تطبيق تعاليم الدين أو غيرها، لا يمكن أن يثبت على التزامه الحريات المدنية والسياسية"، وهو ما يمكن إسقاطه على أنظمة الحكم العربية.
"مداخلة بشأن العدالة... سؤال في السياق العربي المعاصر"، الفصل الأخير، عبارة عن مناقشة أكثر توسعًا لدراسة نشرت في مجلة "تبين للدراسات الفكرية والثقافية"، من طريقة مقاربته للعلاقة بين مفهومي العدالة والحرية "على الرغم من أن المعنى الأصلي لا يشملها إطلاقًا إلا لناحية سياقها وتطبيقها في مجتمع من رجال أحرار"، أي غير عبيد، وعليه يؤكد على أنه لا نضال من أجل المساواة إلا تضمن فكرة الحرية.
وللتنويه، تقدم المداخلة قراءة موسعة لمفهوم العدالة، قبل أن تصل إلى أن الحرية أحد شروط العدالة، وذلك بالاستناد لثلاثة نقاط، يمكن تلخيصها بأنها، أولًا: يعد تقييد الحرية تعبيرًا عن اللامساواة في الحقوق، ثانيًا: تقييد الحرية يؤدي إلى انعدام العدالة، وأخيرًا هو أن الحرية السياسية أصبحت حاجة إنسانية.
وهو ما يمكن تدعيمه، في المقتبس التالي، الذي يقول "ما عاد ممكنًا تخيل عدالة لا تنظم بين مبدأي المساواة والحرية. وعلينا أن نبحث عن مفهوم للعدالة، أو نظرية إذا شئتم، تشمل جماعات الانتماء، أو الهويات، من دون أن تأتي على حساب الحرية والمساواة، بل على قاعدتيهما".
اقرأ/ أيضًا: