أمام سطل من الألمونيوم، جلست إحداهن تبيع كومة من العجين غير المتناسق تبين فيما بعد أنه "بواقي الجاتوه"، الذي فسد أو تغير شكله وطعمه ورمته المصانع.
بقايا الجُبن الرومي، بقايا المخللات، بقايا الدواجن (الهياكل) وبقايا السمك المملح، بقايا عظم اللحم، بقايا الأرغفة، كلها باتت تلقى رواجًا كبيرًا بعد أن أقبل الناس على شرائها بسبب الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية.
تعد أسواق بقايا الطعام تمظهرًا جديدًا من تمظهرات الجوع في مصر، الذي تنبأ به النشطاء منذ ارتفاع الأسعار وما قبلها
كثيرة هي المشاهد في السوق الكبيرة التي يعرض فيها الباعة المتجولون ما يُسمى بـ"كسر المصانع" والمصريون يستخدمون لفظ "كسر" للدلالة على الشيء الذي فيه عيب أو غير المكتمل، تلك الصور التي انتشرت مع تصريحات لمشترين في السوق شكلت صدمة وأثارت تحسر الكثيرين.
اقرأ/ي أيضًا: تفاقم كارثة نقص الدواء في مصر.. أي حلول؟
ومن المعروف أن في مصر سوقاً كبيرة لبيع الملابس المستعملة أو الملابس "البقايا" من المصانع والأسواق الكبيرة، تلك التي تسمى أسواق وكالة البلح، يؤمها الفقراء من كل مكان في القاهرة ليشتروا ملابسهم من هناك حتى انضم إليهم وبعد زيادة الأسعار في الملابس أصحاب الطبقة المتوسطة ممن يرون أنه لا غضاضة في شراء الملابس من بقايا المحلات طالما أن أسعارها هناك قد تكون أقل من نصف أسعارها في المحلات الكبرى. أما نقل الفكرة الجهنمية تلك للطعام فهو أمر يدل على استفحال ظاهرة الجوع والتفقير في مصر.
هذه الأسواق تقع في الجيزة، شمال مصر، والقليوبية، جنوب القاهرة. وتشهد إقبالاً غير مسبوق على شراء بقايا الطعام، والسبب واضح و مفهوم، فمن الجدير بالذكر أن أسعار المواد الغذائية في مصر عانت ارتفاعاً بشكل متعاقب، وشكلت صدمة لكل المصريين على اختلاف مدخولهم المادي منذ تعويم الجنيه في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
على سبيل المثال زاد سعر السكر بنسبة 122% وسعر زيت الطعام بنسبة 60%، من 12.5 جنيهًا للتر الواحد إلى 20 جنيهًا للتر، كما بلغت الزيادة في سوق الخضروات ارتفاعًا ملحوظًا فقد تضاعفت أسعار كثير من السلع. بلغت الزيادة في الفاصوليا 400% من 4 إلى 20جنيه للكيلوغرام، ونسبة الزيادة في الطماطم 234% من 1.5 إلى 5 جنيه للكيلوغرام، أي أنه في النهاية صار من شبه المستحيل لعامل بسيط أو متوسط الدخل أن يضمن ثلاث وجبات "نظيفة" لأولاده الآن.
الميزة الوحيدة لأسواق بقايا الطعام للفقراء في مصر تبقى أسعارها المنخفضة جدًا لكن مخاطرها الصحية تبدو خطيرة
ويفسر الاقتصاديون ارتفاع الأسعار بـ"العجز الدولاري"، الذي تعانيه مصر منذ أيلول/ سبتمبر الماضي، فعدم توفير الدولار لاستيراد السلع الرئيسية أعطى الفرصة لتجار القطاع الخاص للتحكم في المعروض من سلع ورفع أسعاره إلى أكثر من الضعف. بالإضافة إلى سياسات الاحتكار، التي قام بها بعض "الفطاحل" من تجار الجملة والتجزئة، الذين خزنوا السلع لتحقيق أرباح أعلى لأن أسعارها تزيد بشكل مطرد مثلما حدث مع السكر.
اقرأ/ي أيضًا: صور وفيديوهات.. الغلابة في مصر على صفيح ساخن!
الميزة الوحيدة لأسواق بقايا الطعام للفقراء تبقى أسعارها المنخفضة بشكل كبير مقارنة بأسعار السلع السليمة، فكيلوغرام الفراخ مثلًا ارتفع من 15 إلى 32 جنيهًا، وكيلوغرام اللحم ارتفع من 60 إلى 130 جنيهًا وهذا ما جعل العظم والهياكل محل اهتمام الفقراء.
لكن المشكلة الكبرى في أن هذه الأطعمة الفاسدة، "البقايا"، لا يوجد أي رقابة عليها من أي نوع، ليس هذا فحسب بل مصادرها أيضًا غير معروفة، وربما فسادها شبه المؤكد سيؤدي إلى تفشي المزيد من الأمراض بين المصريين، المنتشرة أصلاً بسبب تلوث الغذاء ومنها التهاب الكبد الوبائي "فيروس سي" والأورام السرطانية وغيرها من الأمراض.
وفي تقرير نشرته هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، أشارت إلى أن مصر لا تتبع توجيهات منظمة الأغذية العالمية، سواء في استخدام البذور النقية أو الأسمدة الجيدة أو المبيدات الخالية من أي مسببات للأمراض السرطانية.
تعد أسواق بقايا الطعام تمظهرًا جديدًا من تمظهرات الجوع في مصر، الذي تنبأ به النشطاء منذ ارتفاع الأسعار وما قبلها حيث أصبح الناس لا يعرفون ما الذي يحمله الغد لهم وكيف سيأتون بما يسد رمقهم ورمق أبنائهم.
اقرأ/ي أيضًا: