في مشهد من فيلمه الأخير "كم غريب أن تُسمّى فيديريكو" (2013) الذي روى فيه المخرج الإيطالي إيتوري سكولا بأسلوب فريد يجمع بين الرّوائي والوثائقي سيرة المخرج الإيطالي فيديريكو فلّيني، من خلال نظرته كصديق شخصي لفلّيني أولًا وكمخرج زميل ثانيًا، في مشهد يكون فيه سكولا وفليني جالسيْن على الشاطئ ليلًا، تتقدّم أمّ الممثل الإيطالي الأشهر مارتشيلّو ماستروياني لتعاتب سكولا قائلة بأنّ ابنها الذي يظهر في أفلام فليني نظيفًا وبحالة جيّدة، لا يظهر في أفلام سكولا إلا متّسخًا وبحالة بائسة.
يصوّر المخرج الإيطالي إيتوري سكولا في أفلامه المتأثّرين بالتاريخ وليس المؤثّرين فيه
قد يحكي المشهد الكثير عن أفلام سكولا، أو ما يمكن تسميته بالمشروع السينمائي له كونه اتّخذ بناء واحدًا متّسقًا مبنيًا على تماثل الموضوعات في أفلامه. وقد أشار سكولا إلى ذلك في أكثر من مناسبة حين قال إنّه يصوّر النّاس في أفلامه، الفقراء والبسطاء، المتأثّرين بالتاريخ وليس المؤثّرين فيه. وليس ذلك صدفة، فسكولا كان عضوًا في الحزب الشيوعي الإيطالي، بل كان وزيرًا للثقافة في حكومة الظل التي أنشأها الحزب عام 1989، كما أنجز فترةً أفلامًا وثائقيّة للحزب.
وإن كان لفلّيني، المخرج الأكثر نيلًا لجائزة أفضل فيلم أجنبي في تاريخ الأوسكار، أسلوبًا اتّسم بالذاتيّة والتجريبيّة والجماليّة في أفلامه، فإنّ سكولا أميَل إلى نقل الموضوع في أفلامه، أو بعبارة أخرى، كانت ذاته حاضرة من خلال الموضوع، من خلال أفكاره التي أراد أن يوصلها في الفيلم، دون أن يكون هو بالضرورة حاضرًا. ومثالنا هنا فيلمه الأخير حيث كان حضوره لغاية رواية سيرة آخر هو فليني.
لسكولا الذي توفى قبل أيام عن 84 عامًا (1931-2016) أكثر من أربعين فيلمًا أنجزها خلال أربعين سنة ونال عنها العديد من الجوائز والتكريمات. قد يكون أشهرها "يوم خاص" (1977 - A Special Day) حيث أدى ماستروياني دور صحافي في إحدى الإذاعات، مثليّ مضطهد ومناهض للفاشية، وجارته، أدّت دورها صوفيا لورين، امرأة جميلة، وقرّرا أن يبقيا معًا في اليوم الذي خرجت فيه روما كلّها لترحّب بهتلر أثناء زيارته لموسوليني. ومنها فيلم "كلّنا أحببنا بعضنا كثيرًا" (We All Loved Each Other So Much - 1974) ويحكي عن مجموعة من الرّفاق في المقاومة الإيطالية، في سنوات ما بعد الحرب. وكذلك "العائلة" (The Family - 1987) و"الحفلة الرّاقصة" (Le Bal 1983 - film)، و"قبيحون وقذرون أشرار" (Ugly, Dirty and Bad - 1976)، و"ليلة ڤارين" (1982 - That Night in Varennes) التي يحكي فيها عن الثورة الفرنسية، وغيرها من الأفلام الحاملة لرسالة فكرية وسياسية واجتماعية تجمع بينها كلّها.
في الوقت الذي كان فيه فلّيني مشغولًا في خلق عوالمه الفانتازيّة والشّعرية، كان سكولا كان منغمسًا في الواقعيّة
في مقابلة له مع جريدة "لو موند" الفرنسية يقول: السينما التي نصنعها تجمع مادتها دائمًا من المجتمع الإيطالي، وقد ورثنا ذلك من المابعد-واقعيّة، النيورياليزم: اتّباع الإنسان دائمًا، كما قال زاڤاتيني (كاتب إيطالي). حتى بتغيير اللغة والأسلوب، أعتقد بأنّ الرسالة تبقى كما هي.
وفي مقابلة أخرى مع الجريدة ذاتها يقول كأنّه يكمل فكرته: نصنع دائمًا الفيلم ذاته تقريبًا. لطالما كنت منشغلًا في مسائل كالتّهميش والتفاوت الاجتماعي، لا أغادر الموضوع بل الفكرة التي أعيد تشكيلها ضمن الغرابة والهزل، لأنّي أجدها بذلك وسيلة نبيلة وتراجيدية لنقل مشاكلنا المعاصرة.
سكولا الذي بدأ حياته العملية سينمائيًا ككاتب سيناريو وقبلها كرسّام ساخر في الجريدة ذاتها التي عمل فيها فليني كرسّام ساخر كذلك، هو واحد من مخرجي إيطاليا الكبار، ومن القلائل الملتزمين بقضايا اجتماعيّة في فنّهم، ففي وقت كان فيه فلّيني مشغولًا في خلق عوالمه الفانتازيّة والشّعرية، فإنّ سكولا كان منغمسًا في الواقعيّة، في الهموم الاجتماعيّة والسياسية طارحًا إياها في شكل كوميدي ساخر غالبًا، وناقدٍ دائمًا.
اقرأ/ي أيضًا:
الدّخول المتأخّر وقانون هيتشكوك
فيلم The Walk.. حلم على ارتفاع أربعمائة متر