"أتمنّى من كل قلبي أن يصبح تويتر ملكك!" كانت هذه رسالةً أرسلها البودكاستر الشهير جو روجان إلى إيلون ماسك بعد أيامٍ قليلة من إفصاح الأخير عن تملّكه 9% من أسهم تويتر نهاية نيسان/أبريل الفائت. قبل ذلك أرسل روجان رسالةً أكثر غرابة لماسك يناشده فيها أداء "واجبه المدني والبطولي بـ"تحرير تويتر من رقابة" (من أسماهم) "البلطجيين السعيدين بأنفسهم".
أقنع ماسك نفسه بشراء تويتر بعد الكثير من الشدّ والجذب و"التعازم"، مجنّباً نفسه تحاكماً قضائيّاً باهظاً، هذا شريطة إتمام الصفقة بكل تأكيد.
ويبدو أن أمنيات روجان، البودكاستر المثير للجدل لأسبابٍ وفي مناسباتٍ مختلفة، ستتحقّق، إذ يبدو أن إيلون ماسك، أثرى أغنياء العالم اليوم بقيمةٍ تقارب 240 مليار دولار، قد أقنع نفسه بشراء تويتر بعد الكثير من الشدّ والجذب و"التعازم"، مجنّباً نفسه تحاكماً قضائيّاً باهظاً، هذا شريطة إتمام الصفقة بكل تأكيد.
كانت إحدى المحطات المثيرة في هذه الملحمة التي تتقاطع عندها الأموال والتكنولوجيا والغرور ومشاكل "البوت" وحرية التعبير، والتي تبدو أقرب إلى موسمٍ دسمٍ من مسلسل Succession، قيام محكمة ولاية «ديلاوير» بكشف بعض المراسلات بين ماسك والعديد من الشخصيات المتنفذّة بين أثرياء، ومدراء تنفيذين، وإعلاميين، بل وحتى مفكّرين حول الصفقة المحتملة والضجة الكبيرة التي أحدثها إفصاح ماسك باهتمامه بشراء تويتر في نيسان/أبريل الماضي.
وتمنحنا هذه المراسلات نظرةً بسيطةً إلى كواليس عالم "السيلكون فالي" وتواصل عمالقة التكنولوجيا فيما بينهم، فكيف يتحدّث أشخاصٌ كهؤلاء إلى بعضهم بعض؟ ماذا يمكن أن يطلبوا؟ ما هي نظرتهم؟ ماذا يمكن أن يقول المدير التنفيذي لغوغل لشخصٍ مثل ماسك؟.
الإجابة على هذه الأسئلة، كما نرى من المراسلات قد تكون مخيّبةً ومضحكةً بعض الشيء.
فمثلاً يُوصي المستثمر ستيف جيورفيتسون لماسك بتعيين ابنه الذي يعمل في ريديت، عندما يسأله ماسك عن مبرمجين مهرة، وهناك توبيخ ماسك للمستثمر جيسون كالكانيس، قائلاً له بأنه يستغل صداقتهما بطريقةٍ غير حسنة تجعله يبدو "مستميتاً"، راجياً إيّاه التوقّف، وكان ردّ كالكانيس: "كل ما أريده هو أن أكون عوناً لك."، وقال له في رسالةٍ أخرى: "إليك سيفي... المدير التنفيذي لتويتر هي وظيفة أحلامي." والبعض الآخر عرض خدماته على ماسك، كـ «ماثياس دوبفنر»، المدير التنفيذي لشركة Axel Springer التي تملك مواقع بيزنس إنسايدر وبوليتيكو، الذي قال لماسك أن قيامه بشراء تويتر هو "مساهمةٌ حقيقيةٌ لصالح الديمقراطية." ونجد أيضاً مراسلاتٍ مع الفيلسوف والمفكّر ويل ماكاسكيل الذي قال عنه ماسك مرةً أن بين أفكارهما تقاربًا وثيقًا، حيث قدّم له بعض المقترحات لمن يستطيع أن يساعده في إتمام الصفقة. ومما يُثير الاهتمام أيضاً تقديم بعض المقترحات لمبالغ ضخمة ببساطةٍ غريبة، حيث يسأل ماسك المستثمر «إيلسون» إن كان يرغب بمساعدته في الاستثمار في الصفقة، ويُجيبه «إيلسون» بكل برود: "نعم... مليار أو مهما كان المبلغ الذي تحتاجه." وقد قالت مؤسّسة مجلة The Information في حسابها على تويتر أن هذه المحادثة السريعة كانت أحد أكثر الأشياء الكاشفة لها عن سير الاستثمارات في السيلكون فالي.
ويمكنكم قراءة المزيد من هذه المراسلات في تقارير مختلفة، كتقرير الأتلانتك، وموقع Vox، وسليت، وفوج.
ولكن حقيقة، لا شكّ أنه من الصعب أن ينكر المرء النجاح الهائل الذي حقّقه شخصٌ مثل ماسك، وكيف كان له أن يكنز هذه الثروة الكبيرة خلال وقتٍ قصيرٍ يُثير الإعجاب بدأ عام 1999 بحصوله على 22 مليون دولار من صفقة بيعه أولى شركاته Zip2 لشركة COMPAQ. ولا يمكن أيضاً نكران كفاءته العلمية العالية (كان ماسك سيلتحق بجامعة ستانفورد لتحصيل الدكتوراه في العلوم عام 1995 قبل عدوله عن قراره بعد يومين ودخوله عالم إدارة الأعمال)، والأهم بلا شكّ مهارته في جذب المستثمرين وبناء الأفكار ورؤوس الأموال.
ولكن ما هي مشكلة ماسك والأشخاص الذين على شاكلته؟
مشكلة هؤلاء هي ليست قطعاً حاجته للأموال، ولا هي عدم قدرته على التأثير والوصول، ولا هي غيابه أو بعده عن الساحة، ولكنها، كما يحاول هذا التقرير تصويرها، اغتناءٌ في المال والنفوذ والتأثير لا يرافقه بالضرورة غنىً آخر في الطرح أو التفكير.
هل يعرف ماسك ماذا يريد من تويتر؟
لعل وصف أحد الأشخاص المقرّبين من هذا العالم، والذي كان يعمل مسؤولاً تنفيذياً عن شبكات التواصل، يلخّص ما نقصده. "ردة الفعل التي تنتابك عندما تقرأ [هذه المراسلات]، هي أن الجميع حمقى للغاية." ويعبّر هذا المسؤول السابق في تصريحاته لصحيفة الأتلانتك عن دهشته من التفكير البسيط والمباشر الذي يُوليه عمالقة السيلكون فالي لقراراتهم التنفيذية والمالية، خصوصاً بحديثهم عن صفقةٍ قد تغيّر (بدون مبالغة) ملامح عالمنا بأكمله، كشراء أثرى شخصٍ في العالم لإحدى أضخم شبكات التواصل في العالم. فقد يُخيّل لنا أن هؤلاء الأشخاص يتمتّعون بقدرٍ لا نظير له من التأنّي والذكاء والحكمة، ولكن الحال ليست كذلك: "تسأل نفسك: «هل هكذا تُدار الأمور؟» لا يوجد أيُّ تفكيرٍ أو تحليلٍ استراتيجي، إنها كلها قراراتٌ عاطفية لا يفكّر أصحابها بأي عواقب."
هذا الكلام يتسق بشكلٍ كبير مع طريقة تعامل ماسك مع تويتر وتصريحاته عن الشبكة التي بدا عليها تخبّطٌ وضبابيةٌ كبيران منذ نيسان/أبريل الفائت، والذي لا يختلف كثيراً عن تصريحاته بصورةٍ أعم.
على سبيل المثال، بعد ساعاتٍ وجيزةٍ من نشر الوول ستريت جورنال لتقريرها عن موافقة ماسك على العودة إلى عرضه الأصلي لشراء تويتر (التي خصّصت له الصحيفة صفحةً خاصةً لتغطيةٍ حيّةٍ ومباشرة)، يغرّد ماسك مثلاً: "شراء تويتر هي خطوةٌ تسرّع صناعة تطبيق X، وهو تطبيق "كل شيء." دون أن يبيّن ما قصده بذلك، أو ما الذي يساعد أو يمنع حدوث ذلك في حال حصول الصفقة من عدمها.
لا يختلف ذلك حتى عن أفكار ماسك الأخرى عن شبكة تويتر التي كانت تبدو في كثيرٍ من الأحيان عفويةً لا يسبقها أي تأمّل. مثالٌ جيدٌ على ذلك هي فكرة ماسك (التي أبدى لها الكثير من الحماس) عن استبدال تويتر بشبكة مراسلات ودفع تقوم على تقنية الـBlockchain، والهدف من هذه الشبكة التي يُفترض أن يدفع فيها المستخدمون نسبةً بسيطةً من رصيدهم من عملة Doge Coin للتعامل مع الشبكة، والفائدة هي التخلّص من السبام، إلا أنه عاد بعد عشرة أيام، كما تُظهر المراسلات المكشوفة مع أخيه، مؤكّداً له أن "تويتر «البلوكتشين» فكرةٌ غير ممكنة التطبيق."
وما هذا إلا غيضٌ من فيض! فتصريحات ماسك عن تويتر معظمها اتسمت بهذه الغرابة التي تترك قارئها المسكين في حيرةٍ من أمره. أفكاره عن رقابةٍ أقل على التغريدات انتصاراً لحرية التعبير الذي قال أنه السبب الأهم لرغبته في شراء تويتر، والموضوع بسيط بنظر ماسك: "فليكتب الناس ما يشاؤون ما لم يخالفوا القانون"، دون أن يلقي بالاً لما قد يرافق ذلك من تعقيداتٍ كتباين القوانين بين دولةٍ وأخرى، أو حتى شرعية هذه القوانين أو الأنظمة التي تسنّ هذه القوانين، وغير ذلك من الأسئلة الصعبة التي تمسّ الكثير من اللوجستيات والجوانب المختلفة لفكرةٍ قد تبدو بسيطةٍ للوهلة الأولى، والتي بلا شكّ يواجهها القائمون حالياً على شبكاتٍ مثل تويتر فيسبوك، وكما يقول «فاغر»، مدير السياسات في منظّمة Internet Freedom Foundation، أن هذا الطرح البسيط "يقذف بنقاشنا عن مراقبة المحتوى عشر سنين إلى الوراء."
رؤية ماسك لتويتر، تشمل أفكاراً أخرى مثل التوقّف عن الاعتماد على الإعلانات والتحوّل إلى نظام اشتراكاتٍ مدفوع، ورفع الحدّ الأعلى من الحروف في التغريدة الواحدة، وتحويل خوارزمية تويتر إلى خوارزمية مصدر مفتوح. وكما يعرف من يتابعون مدير تيسلا وسبيس أكس، فإن ماسك يُلقي بهذه الاقتراحات في تغريداتٍ خاطفة وكأن الهدف منها هو فقط جذب الانتباه وإثارة الجدل. ولكن للإنصاف، فبعض هذه الاقتراحات، قد لاقت قبولاً وتأييداً، بل وتحرّك تويتر لإضافتها (بغض النظر إن كان ذلك بالفعل بفضل ماسك)، وأهمها ربما إضافة خاصية تعديل التغريدات.
المهم، ربما من المفيد، في محاولةٍ أخرى لتسليط الضوء على هذا "الفقر"، بأن نرسم خطاً زمنياً لقصة ماسك مع تويتر التي ستنتهي تقريباً، أو هكذا نأمل على الأقل.
- 4 نيسان/أبريل: ماسك يصبح صاحب أكبر مساهم خارجي في تويتر بشراءه 9.1% من أسهم الشركة.
- 14 نيسان/أبريل: ماسك يقدّم عرضه الرسمي لشراء تويتر بقيمة 54.20$ للسهم الواحد بصفقة قُدّرت بـ43 مليار دولار.
- 25 نيسان/أبريل: بعد الأخذ والرد داخل الشركة، تويتر يوافق رسمياً على عرض ماسك.
- 7-10 أيار/مايو: ماسك يقول أنه يخطّط لمضاعفة أرباح تويتر (بشكل رئيسي عبر الاشتراكات)، وأنه "لا يمانع" رفع الحظر عن ترامب
- 17 أيار/مايو: ماسك يتهرّب! ويقول أنه لن يتمّ الصفقة ما لم يحصل على مزيدٍ من المعلومات عن عدد الحسابات الوهمية، مضيفاً أن تويتر أعطته معلومات خاطئة عن نسبة الحسابات الوهمية.
- تجدر الملاحظة هنا إلى أن المراسلات المكشوفة في إطار إجراءات القضية تبيّن أن ماسك كان يعرف على الأقل بأن الحسابات الوهمية هي مشكلة موجودة في تويتر، وهو ما قد يخالف السبب الذي أدلى به لرغبته بالانسحاب من الصفقة.
- 13 تموز/يوليو: إدارة تويتر ترفع قضية على ماسك لإلزامه بإتمام الصفقة.
- 17 تموز/يوليو: ماسك يريد تقليد تيكتوك وويتشات وإضافة الاشتراكات في اجتماعه المفتوح مع موظّفي تويتر.
- 29 تموز/يوليو: إعلان موعد بدء الجلسات لقضية ماسك وتويتر بتاريخ 17 تشرين الأول/أكتوبر
- 30 أيلول/سبتمبر: محكمة ديلاوير تكشف عن مراسلات ماسك تحت ذريعة كونها جزء من القضية
- 5 تشرين الأول/أكتوبر: ماسك يوافق على الالتزام بعرضه الأصلي
ثريٌّ رغماً عنا (Meritocracy)
إذا استطعنا أن نقنعك في الجزء الأول من هذا التقرير بما قد يعيب أشخاصًا مثل ماسك من ضحالة، فلعلك تتساءل الآن لماذا إذاً يختصّ هؤلاء بكل هذا التأثير على حساب آخرين قد يفوقونهم حكمةً ورجاحة، ومن ثمّ ما سبب تركّز كل هذه الثورات والتأثير في يد قلةٍ قليلةٍ من الناس؟
الإجابة على ذلك، أو بالأحرى جزء من الإجابة، يتعلّق بما يُعرف باسم الـMeritocracy، ولنترجمها إلى "نظام الأحقية"، وهو نظامٌ سياسيٌّ تذهب فيه المناصب والسلطات إلى أصحاب المواهب والإنجازات والجهد بغض النظر عن ما يملكونه من ثروات أو مكانتهم الاجتماعية. وقد يبدو هذا النظام عادلاً يُكافَأ فيه المجتهد، ويُهمّش فيه الكسول، وقد ارتبطت هذه الفكرة بصورةٍ معيّنة في الخيال السياسي، الأمريكي على الأقل، هي Level-playing field، أو ساحة التنافس العادلة ذات الفرص المتكافئة.
لكن هذه الفكرة تعرّضت للعديد من الانتقادات التي تناولت زوايا مختلفة، بعضها صعوبة أو استحالة إقامة هذا النظام وما قد يؤدّي الإيمان بفكرةٍ كهذه من ضرر، ومن ذلك مثلاً أن نظام الأحقية دائماً يؤدّي إلى غيابٍ للمساواة لأن هذا لا بد منه في النُظم الرأسمالية التي تقوم على التباينات، وكان ممن تناولوا ذلك هو الكاتب «مايكل كينزلي» في مقالةٍ كتبها في التسعينات للواشنطن بوست.
ومن الوجوه الأخرى لانتقاد هذه الفكرة هي أسئلةٍ عمّن يضع معايير الأحقية، وكيف يمكن أن نتصالح مع قدرات الناس المختلفة، وكيف نستطيع مثلاً تقديم قدرةٍ ما على أخرى، وما علاقة ذلك بالتعليم، ومعاييره، ومن ذلك أيضاً اتساع الفجوة، بسبب التنافسية العالية على الفرص وجودة التعليم، مما يؤدّي في النهاية إلى بناء ما هو أشبه بحديقةٍ مسوّرة يستحيل على أحدٍ دخولها والتنعّم بها إلا من هم داخلها أصلاً.
أما البعض الآخر فيرى أن النظام نفسه ليس المشكلة، وإنما عدم تطبيقه بالكامل، فما زلنا مثلاً نعاني من مشاكل الفساد والمحسوبية، فيما يرى البعض الآخر أن مهاراتٍ مثل الانتهازية والحظ لها دورٌ كبير في إعلاء البعض وسحق الآخر، أكثر بكثير من مجرد الموهبة أو الجهد الصرفين، وهو ما ذهب إليه الاقتصادي «روبرت فرانك» في كتابه Success and Luck: Good Fortune and the Myth of Meritocracy.
ويصكّ بروفيسور القانون دانيل ماركوفيتس في جامعة ييل، ما يسميّه بـ"فخ الأحقية"، الذي يرى أن هذا النظام هو بحد ذاته المشكلة، وليس ضعف تطبيقه، لأنه سببٌ في هلاك الجميع، إذ أنه يؤدّي إلى سحق الطبقة الوسطى واستنزاف "الفائزين" فيه حتى من خلال إجبارهم على العمل لساعاتٍ أطول وأطول للحفاظ على تفوّقهم، وهو ما يؤدّي إلى ما يسميّه بـ"كرة ثلج التباين الاجتماعي" (Snowball inequality).
من المهم ألّا نهمل احتمالية أن هذه الصورة المثيرة للجدل، لحد الكاريكاترية، التي يشيّدها إيلون ماسك لنفسه، بكل ما يكتبه من تغريدات وما ينشره من "ميمات"، قد تكون تعبيراً صادقاً عن طبيعته
بعيداً عن اتفاقنا أو رفضنا لهذا الفكرة، أو الأسباب التي نقنع بها أنفسنا لنجاح البعض أو حصولهم على هذا القدر الهائل من النفوذ والكفاءة، فإنه من المهم ربما ألّا نهمل احتمالية أن هذه الصورة المثيرة للجدل، لحد الكاريكاترية، التي يشيّدها إيلون ماسك لنفسه، بكل ما يكتبه من تغريدات وما ينشره من "ميمات"، قد تكون تعبيراً صادقاً عن طبيعته، وأن ما قد يظهر عليه من "اغتناء" قد لا يعني بالضرورة "غناه" الشخصي.