فيلم "اصطياد أشباح" للفلسطيني رائد أنضوني يأسرك ويصدمك فورًا، لأنه يحكي بدون مبالغة عن تجربة مجنونة وأليمة. تجربة الاعتقال والحبس والتعذيب، وكما تجري وقائعها الرهيبة داخل معتقل إسرائيلي، وبكل تأثيرتها السيكولوجية الرهيبة في نفوس المسجونين من كل الشعب الفلسطيني، ولا تخلو أسرة فلسطينية من سجين في الحبس. 4 من كل 10 فلسطينيين تعرّضوا للاعتقال أو السجن من طرف الاحتلال الإسرائيلي مرة واحدة على الأقل في حياتهم.
خاض رائد أنضوني تجربة اعتقال قصيرة في "المسكوبية" حين كان في الثامنة عشر من عمره، تركت في نفسه شظايا ذكريات
خاض رائد أنضوني تجربة اعتقال قصيرة في "المسكوبية" حين كان في الثامنة عشرة من عمره، تركت في نفسه شظايا ذكريات فقط، لا يعرف من بينها ما هو الحقيقي وما هو المتخيل. وفي سعيه لمواجهة هذه الذكريات الأشباح والكوابيس التي تطارده وتسبب له صداعًا مستمرًا يشبه جرحًا داميًا لا شفاء منه أبدًا، يقرر السينمائي الفلسطيني أن يطاردها قبل أن تطارده، محاولا التطهر منها، بإحيائها. يقرر رائد أنضوني أن يصير طارد أشباح، يغتسل من أدرانها وشرورها لكي يصبح إنسانًا حرًّا من جديد. عليه أن يبني في مكان ما زنازين المسكوبية، وغرف التحقيق، وأن يعيد تمثيل أجواء العنف والرعب أثناء فترة الاعتقال.
اقرأ/ي أيضًا: القضية الفلسطينية ووعي السينما المصرية
كيف فعل رائد أنضوني ذلك؟ إعلان صغير في صحيفة محلية يطلب معتقلين سابقين لتمثيل فيلم.
بفضل الإعلان، حصل رائد أنضوني على مجموعة لافتة من السجناء السابقين الذين سيقومون ببناء ديكور السجن وإعادة تمثيل الأوضاع الصادمة التي عاشوها، في مخزن كبير مهجور في رام الله. بموازاة ذلك يوزّع المشاركون أنفسهم على أدوار السجناء وحرّاس السجن، فاتحين الباب لرحلة اكتشاف أو إعادة اكتشاف الآثار العميقة والمدمرة التي تتركها تجربة الحبس والتعذيب. يومًا بعد يوم، السجناء السابقون، الذين من بينهم الحرفي والمهندس والحدّاد والكاتب والممثل ومساعد المخرج، سيصعدون جدران ذكرى هذه الأماكن التي نجوا منها. وشيئًا فشيئًا، بين الاحتشام والفكاهة وتلطيف اليأس، تعود العواطف إلى سطح الذاكرة وتنجح في حلّ عقدة ألسنة تتشابك كلماتها بالكثير من الدموع التي تغرق شعبًا كاملًا حُكم عليه بالعيش في ظل الظلم الإسرائيلي لعقود.
منذ أول مشهد في الفيلم، عندما ينفتح باب المخزن الذي سيصبح معتقلًا، ويستقبل رائد أنضوني مَن توافرت فيهم الشروط المطلوبة. يسحبنا الفيلم إلى داخله، بأحداثه ومنطقه وموالاة الأسلوب التسجيلي بالروائي والعكس، ليتجوّل في زمنه بين مزيج حالات مختلفة تجعل منه تجربة مشاهدة لا تُنسى. جزء كبير من قيمة "اصطياد أشباح" قراره الذكي بتوريط المتفرج في أحداثه، وباختياره الواعي إخبار حكاية الناجين لا الضحايا. فمتابعة عمليات بناء السجن ثم توزيع الأدوار وتمثيل التحقيقات والاستجوابات وممارسة تعذيب السجناء، تُدخل المتفرج رويدا رويدا في لحم الفيلم، ليصبح شخصية من شخصياته، يشارك في صنعه ويملأ تلك الفراغات الملتبسة في بناء الفيلم وطريقة سرده ومونتاجه، فضلا عن النزول في محيط أسئلة تفجّرها حكايات وأفعال على الشاشة.
يحسب لفيلم رائد أنضوني تركه المساحة الأبرز للصورة للتعبير عن الأثر النفسي الذي يخلّفه السجن في نفوس مَن عانوه، بينما جاء توظيفه للجانب الحواري الملفوظ لجرّ الذكريات إلى الوقت الحالي وإعادة إنتاج ما جرى، في محاولة منه لتقديم تجربة حيّة للاعتقال دون تزييف أو صراخ. كما يحسب له أيضًا، قدرته على المزج بين فنيات الفيلم التسجيلي ولفيلم الروائي، لتقديم قالب مغاير وغير معتاد.
ليس هناك أبطال بالمعنى الحرفي في فيلم رائد أنضوني، لكن الشخصية الأكثر حضورًا هي محمد خطّاب، وهو معتقل سابق تحيطه هالة البطولة ولا يفتقد الكاريزما بفضل أسلوب مقاومته الذي جمع بين صلابة وبأس وسخرية في مواجهة صلافة وعنف أساليب استجواب الشين بيت (جهاز الأمن الداخلي في إسرائيل). وعلى الرغم من 7 أيام من الحرمان من النوم، لم يقدم محمد أبدًا أية معلومات. في نفس العام، تم احتجاز رائد أنضوني في السجن. بالنسبة لهذه المشاهد، يلعب دور محمد ممثل محترف هو رمزي مقدسي الذي عانى أيضًا من السجن. لكن على عكس محمد، انهار رمزي بالكامل في مواجهة الضغط من المحققين. ولجعل رمزي يفهم ما هي الآليات التي سمحت له بمقاومته، يجب على محمد أن يبحث في نفسه بعمق من أجل الوصول إلى منابع سلوكه، وهو ما يسمح للمخرج بالتساؤل حول أسطورة وغموض صورة البطل وراء القضبان، وعالميتها.
كل سجين له ذكرياته الخاصة ويعيد في الفيلم ظروفه الخاصة من السجن. وبما أن في السجن يجب أن يكون هناك أيضًا حراس ومحققون، فإن الشخصيات سيمرّون أيضًا إلى جانب المالك الشرعي للعنف، ما يسمح للسجناء السابقين بتغيير المنظور وفي النهاية تحرير أنفسهم أو اكتشاف جزء آخر منهم. نرى معتقلين يتبوّلون في ملابسهم كفعل مقاومة، ومشاجرات بين معتقلين آخرين بفعل الضغط النفسي، بينما يروي الأسرى المحرّرين على مدى الحداث جوانب من معانتهم وصمودهم، ثم يعود الجميع في النهاية إلى نقطة تلاق، فنرى الصداقات وهي تُبنى ممزوجة بالدم والقهر والصراخ، مع تأكيد أن التعذيب أيا كان نوعه لن يستطيع كسر المقاومة أو إحباط المقاومين.
يحسب لفيلم "اصطياد الأشباح" تركه المساحة الأبرز للصورة للتعبير عن الأثر النفسي الذي يخلّفه السجن في نفوس مَن عانوه
كلمات المعاناة تنشأ من القصائد والموسيقى، والتنفيس هنا يصبح فعلًا جماعيًا بقدر فرديته. هنا، نتحدث عن السجن والتعذيب، ولكن كما في أي مكان آخر، هناك الحياة، والسينما، والمسرح، والزواج، والأطفال، والمستقبل، والحياة، ودائما الحياة. هذه المقاومة يصعب قهرها، لأن دافع الحياة لا يضعف. وعي الفرد والجماعة بمشروعية حقه في الحياة، رغم كل الضغوط الممكنة لكسرها، لا تنكسر. في السجن، يحمل السجّان/الحارس ولّاعة ويضعها، حسب نيّته، تحت تصرف السجين. لكن النور يبقى إلى جانب الشخص الذي يستمر في الحلم خلف الجدران.
اقرأ/ي أيضًا: هوامش بدائية عن السينما الصهيونية
الثقافة كإيماءة مقاومة ليست رمزية فقط، إنها حيوية. والفلسطينيون، ضد كل رياح الاحتلال، يعرفون كيف يلعبون ويؤكدون على مشروعية قضيتهم وحقهم في حياة طبيعية لا يهددها الوجود الإسرائيلي ولا الأشباح التي يخلقها.
اقرأ/ي أيضًا: