مثل حشرة ضئيلة. بدَت "سُلطة أوسلو" وقت انتفضت فلسطين عن بكرة أبيها أوّل الصيف. كانت الأعلام الفلسطينية ترتفع عاليًا في اللّد وحيفا والناصرة. هُناك في عُمق الأراضي المُحتلة. بينما كان "موظفو السلطة" يصيغون خطابًا ساذجًا، ليُلقيه "عجوز المُقاطعة" بلسانٍ مُرتَجف. كما كانت القذائف الصاروخية تُعيد رسم الحدود في السماء، بينما كان "قادة السُلطة" يُلصقون وجوههم بالأرض. وكان الشعب الفلسطيني ينزف دمًا من كُلِ خاصرةٍ فيه، بينما كانت "قوّات الأمن الفلسطينية" تتحسّس أسلحتها، خائفة في الظل.
يتضّح لنا مُجددًا، كيف تلتقي مسألة الدولة العربية بالمسألة الاستعمارية في فلسطين. لقد استعان الاستعمار الإسرائيلي بالتواطؤ العربي الرسمي، ليُصيّر الثورة الفلسطينية نظامًا يشتغل وظيفيًا، شأنه شأن الأنظمة العربية
قُتِل "نِزار بنات" فجر الخميس الماضي. تاركًا خلفه امرأةً وأطفالًا، ودمًا ساخنًا سُفِك على يد ميليشيا من "قوّات الأمن الفلسطينية". ولمّا خرج الناس إلى الشارع يصرخون في وجوه القتلة، ووجهوا بالدروع العنيفة والهراوات الثقيلة وقنابل الغاز والعضلات المفتولة القبيحة. سُحِل الناس فوق الإسفلت، مُزِّقت ثيابهم، وشُتِمت أمهاتهم. ثمّ سيقوا إلى "زنازين فلسطينية" لا تبعد كثيرًا عن "المستوطنات الإسرائيلية".
اقرأ/ي أيضًا: إدانات أممية بعد قمع السلطة الفلسطينية "الوحشي" للمحتجين
الآن، نفهم أكثر من أي وقت مضى، عضوية السُلطة الفلسطينية في جامعة الدول العربية. ويتضّح لنا مُجددًا، كيف تلتقي مسألة الدولة العربية بالمسألة الاستعمارية في فلسطين. لقد استعان الاستعمار الإسرائيلي بالتواطؤ العربي الرسمي، ليُصيّر الثورة الفلسطينية نظامًا يشتغل وظيفيًا، شأنه شأن الأنظمة العربية، ضدّ قضايا شعبه ومصائر أهله. ومعه لم يبدُ غريبًا على مسامعنا ما هتفت به حناجر الناس في قلب رام الله: الشعب يريد إسقاط النظام!
إنّ السُلطة السياسية حين تقوم في جغرافيا عربية تنطلق ابتداءً من نفي النّاس عن المجال العام، وتظل حريصة على سلبهم جميع الأدوات التي تمكنهم من خلق فاعلية سياسية تخصهم. فلا حياة حزبية، ولا انتخابات حقيقية، ولا مؤسسات وطنية. وهي حين تؤسّس لشرعيتها السياسية، لا تملك إلا التلويح بحُجة الخطر الوجودي الذي يتهدّد أمن الدولة وسلامتها القومية. والحديث هنا عن الدولة ذاتها التي ينخر الفساد جسدها ويتعاظم تغولها يومًا بعد يوم على سكّانها وحقوقهم الأساسية. لقد وَجدت "أنظمة الممانعة" ضالتها هذه في "المشروع الإمبريالي الغربي". ووجدت أنظمة أخرى، بضاعتها الأمن والاستقرار، ضالتها في خطابٍ يُحذّر من "تداعيات السياسة في الإقليم المُلتهب". أمّا "السُلطة الفلسطينية" فقد حباها القدر بما هو أعظم من هذا كُلّه: وجودها في قلب المشروع الاستعماري الاسرائيلي!
هكذا تتحالف الأنظمة العربية، عضويًا، مع الأخطار التي تُقيم على أساسها شرعيتها، ضمن مُفارقةٍ حزينة وساخرة. وهكذا يكون علينا دائمًا، إعادة بَسط البديهي وتوضيحه: إذا كانت حياة النّاس السياسية مُهدّدة "بخُططٍ إمبرياليةٍ خبيثة" فإنّ الأولى هو حفظ الوجود البيولوجي لـهذا "الشعب المُهدّد"، وتنمية حياته الاقتصادية والثقافية، وتشييد ركائز سياسية مرنةٍ وفعّالة لمجابهة "العدوان على الأمة". وإذا كان "الإقليم المُلتَهب" قد انتهى إلى ما انتهى إليه بسبب "الثورات العنيفة"، فإنّ الأولى هو إتاحة المجال لحراك سياسي شعبي، ضمن مشروع إصلاحي جاد، لتلافي وقوع ما ليس منه بد. وإذا كان المشروع الوطني للسُلطة الفلسطينية "مُستهدفٌ إسرائيليًا"، فإنّ الأولى هو تقديس الجسد الفلسطيني، وتعظيم حرمته، بوصفه مساحة المُقاومة الوطنية وركيزتها الأولى.
فشل الشهيد نزار بنات في فهم شيءٍ من هذه المُعادلة، شأنّه شأنّ نُشطاء آخرين، حين سقط في ورطة أخلاقية ليس بعيدًا عن فلسطين، في سوريا. ولكنّ فهم هذه المعادلة، لا يعطي الحقّ بالسكوت عن جريمة تصفيته، فضلًا عن الشماتة بها. لم يُقتَل نزار بنات بسبب "النسبية الأخلاقية" في مواقفه السياسة. إنّما فقط لمُعارضته المُعلنة في وجه سُلطة فاسدة. تقتضي المبدئية السياسية في مُواجهة النظام العربي الرسمي، الإيمان بقيمة الإنسان وحقه في التعبير عمّا لديه، بوصفه موضوعًا سياسيًا، بصرف النظر عن الحمولة الأخلاقية لدى هذه الضحية أو تلك.
لا يعني هذا تفريغ السياسي من الأخلاقي، إنّما هي دعوة لإعادة تعريف الأخلاقي في ضوء السياسي. حتى لا يحيلنا التركيز على الأخلاقي المُجرد في قضية بنات لتطبيع وحشية السُلطة العربية، وإعطائها ذرائع ضمنية، وتحييد جرمها عن مركز الصورة.
يمكن اليوم لمُهاجمة آراء نزار بنات أن تكتسب معنىً ما لو أنّها لا تُحاور جُثّة. ولكننا أمام جريمة اغتيال سياسي مكتملة الأركان. وسط مباركة ضمنية من مُختلف السُلطات العربية. ففي حين ندد الاتحاد الأوروبي الممول للسلطة الفلسطينية بالفعل الإجرامي الذي وضعه في موقف محرج، لم يصدر بيان إدانة واحد عن أي وزارة خارجية عربية، ولا حتى عن النظام السوري الذي عدّ الضحية نفسه محسوبًا عليه. إنّ هذا الامتناع عن التنديد يتماشى مع رؤية عربية رسمية جامعة لا تجد في كرامة الإنسان ما يستدعي الاهتمام.
لقد جربت أجيالٌ قبلنا، الانضواء تحت راديكاليات قومية ووطنية ودينية شتّى. وفي الأحوال جميعها كنّا نجني ازدواجية في المعايير السياسية، وانفصام في الرؤى الأخلاقية. وقد آن لنا، نحن الذين غرقنا في تناقضات المشهد بعد الثورات المُضادة لربيعنا العربي، أن نُغالب حزننا ونتجاوز رومنسيتنا الوطنية، نحو مشروع عملي مركزه الإنسان السياسي بما يضمن حقّ الفرد العربي في امتلاك فاعلية سياسية تخصّه بغضّ النظر عن القِيم الحاكمة لنشاطه السياسي. ما دام لم يتورط، بالمعنى القانوني، في الحقوق المُقدّسة للشعوب العربية وحقّها في الكرامة.
ثمّة حقوق قانونية سياسية، وأخرى أخلاقية إنسانية. وبمقدار ما تشدُنا الثانية، علينا تطويع أنفسنا لفهم الأولى والانخراط في مشروع يدفع نحو تحقيقها على الأرض، لأنها الضامن لمُستقبلنا السياسي الذي ننشُده. إنّه ليس من حق جهاز أمني واحد، كائنًا من كان، اعتراض مواطن عربي على رأيه. مهما كان هذا الرأي غريبًا عن قيمنا المُشتركة وشاذًا عن نضالاتنا الجمعية. وسُكوتنا عن جريمة واحدة من هذا النوع، بصرف النظر عن شخصية الجريمة، أمر يؤخر نضجنا السياسي، في لحظة تاريخية نحن أحوج ما نكون فيها إلى تمكين شعوبنا سياسيًا.
هذا الطرح الذي يبدو مثاليًا باهتًا، هو الطريق العملي الواضح لخلق ثقافة ديمقراطية شعبية، وهو الردّ الوافي على الانقسامات الحادّة في الفهوم الأخلاقية والسياسية على امتداد الجغرافيا العربية. وهي انقسامات، ساهمت الأنظمة العربية في إنتاجها وتكريسها حين شوّهت، فيما شوّهته، الحيّز السياسي الشعبي. وحين ادّعت امتلاكها لمشروعات سياسية مُتباينة، فيما هي في حقيقتها نموذج واحد لطبقة سياسية انتهازية، تحتل سقف الدولة باسم السياسة، بحثًا عن توازنات تُحقّق مصالحها الذاتية والضيّقة.
اقرأ/ي أيضًا: