07-أكتوبر-2024
مخيم جباليا

(Getty/ الترا صوت) كأنه لا يوجد حياة بعد الحرب إلا لتذكّر ما جرى خلالها

في عام 2018، عندما كانت براميل نظام الأسد تتساقط على رؤوس المدنيين في غوطة دمشق الشرقية تمهيدًا لتهجيرهم، تساءلت: متى يكون عدد القتلى كافيًا ليتوقف القاتل عن القَتل؟ السؤال كان ساذجًا لأن الإجابة واضحة: عندما يحقق أهدافه من قتلهم فلا يعود بحاجة إلى ممارسته! لكن متى يكون عددهم كافيًا للتعامل مع موتهم بوصفه حدثًا عاديًا؟

الإجابة واضحة وبسيطة: عندما يتجاوز العدد بضعة آلاف فقط. حينها، لا نعود نتعامل مع مأساة وإنما مع أرقام فقط، كأننا أمام معادلة رياضية لا يثير اهتمامنا فيها سوى تعقيداتها وعدم قدرتنا على حلّها، فندعها جانبًا لأيام وربما أشهر، أو سنوات.

ألحَّ عليَّ هذان السؤالان عدة مرات بعد 2018، فحروبنا كثيرة وضحاياها كُثر. لكن السؤال أصبح أكثر إلحاحًا بل وهاجسًا مع بداية الحرب على لبنان، قبل أسبوعين، لأن الناس لم تعد مهتمة فعلًا بأعداد ضحاياها، تمامًا كأنهم يُحسبون، على ما يبدو، مع ضحايا غزة الذين تجاوز عددهم 40 ألف شهيد بعد عام، وهذا رقم كبير بما يكفي لا ليكون عاديًا فقط، بل ليكون ما هو أقل منه أمرًا طبيعيًا، خاصةً عند عقد المقارنات الفارغة بين رقمين.

نعيش في مكان يتزايد فيه عدد أولئك الذين يملكون قرار موتنا الذي يُصبح مع الوقت شيئًا مألوفًا كأنه جزءٌ من هويتنا، وربما هوية المكان نفسه

هو عاديٌ وطبيعيٌ لأننا نتعامل دائمًا مع العدد لا الفكرة؛ فكرة تتجاوز في بؤسها كل ما سبق، وهي قابليتنا الدائمة للموت في هذه المنطقة وكأننا نُذرنا له، وقدرة الآخرين على انتزاع حقنا الأساسي في الحياة بعد أن انتزعوا منا حقنا في تقرير مصيرنا. فكرة أننا نعيش في مكان يتزايد فيه عدد أولئك الذين يملكون قرار موتنا الذي يُصبح، مع الوقت، شيئًا مألوفًا كأنه جزءٌ من هويتنا، وربما هوية المكان نفسه.

وهؤلاء، أنظمة استبدادية واستعمارية، يريدون من موتنا أن يكون عِبْرة. فالدكتاتوريون العرب يحذّرون شعوبهم من تكرار سيناريو سوريا، على سبيل المثال، إن هم انتفضوا ضدهم. كما تحذّر إسرائيل "أعداءها" بأن تجعل من بلدانهم "غزة ثانية" إن فكّروا بمهاجمتها، وهذا تمامًا ما يحدث اليوم في لبنان.

ومن ناحية أخرى، هو عاديٌ وطبيعيٌ، بالنسبة لكثيرين منا، لأننا نعتبر أنفسنا بعيدين عن هذه الحرب، مع أننا فعليًا لسنا كذلك. لسنا سوى ضحايا مؤجلين، نجونا مؤقتًا بسبب فرق الزمان والمكان. لكن هناك عشرات الآلاف لم يتمكنوا من النجاة. أكثر من 40 ألف فلسطيني أُزهقت أرواحهم لا لشيء سوى الثأر والانتقام من 7 تشرين الأول/أكتوبر وضمان ألا يتكرر لا عبر القتل فقط، وإنما التدمير وجعل غزة غير صالحة للحياة البشرية.

ليست الفكرة بأنه لا يجب أن نتوقف عن الحزن على أكثر من 40 ألف شهيد، بل بأنه لا يجب علينا أن نتعامل مع هذه المأساة (موت، تهجير، دمار غير مسبوق) على أنه شيء عادي لمجرد أنه يتكرر يوميًا منذ عام. فالفكرة الأساسية هنا أن موت هؤلاء هو طريقة إسرائيل لإطالة عمرها كدولة استعمارية، كما كان وسيبقى طريقة الأنظمة الدكتاتورية للبقاء في السلطة. موتنا طريق ووسيلة.

قد تتوقف الأسئلة المتعلقة بالموت عندما تتوقف المَقتلة. لكن ماذا بشأن إمكانية الحياة بعد ذلك؟ تلك الحياة التي يواجه فيها أهالي قطاع غزة زمنًا مضطربًا لناحية تنقّلهم، لا إراديًا ربما، بين أزمنةٍ كثيرة؛ بين اللحظة التي يعيشونها، وبين الأمس ما قبل الحرب، وبين الزمن الذي فقدوا فيه أحبتهم، وبين زمن مأمول يتوقف فيه كل هذا.

وكأنه لا يوجد حياة بعد الحرب إلا لتذكّر ما جرى من مآسٍ وفظائع خلال الحرب.