تجعلنا ردود الفعل المتفاجئة من نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي نشعر أننا أمام معجزة حققها اليمين المتطرف في تقدمه، مع أن المتابعة البسيطة لشؤون السياسة، وكذلك لتفاصيل الحياة اليومية بالنسبة لمن يعيشون في أوروبا، تجعل هذه النتائج تبدو عاديةً بالقياس إلى عدة أمور واقعية، في مقدمتها الحضور القوي لليمين في المجتمع أينما ولّينا وجوهنا، وبروز النزعة اليمينة المتطرفة بقوة في المجال العام الأوروبي.
وعدا عن ذلك، فإن دعم المجتمع الإبادة الجماعية كما في غزة أو تجاهل حدوثها كما في ميانمار، أو ممارسته التمييز ضد الآخرين بناءً على العرق أو الدين أو لأي سبب آخر؛ ليس سوى تعبير واضح عن أفكار أو تصورات فاشية متجذرة في هذا المجتمع، والفاشية ليست مجرد نظام سياسي وحسب، بل هي أيضًا معتقدات وقيم تؤمن بالقمع والتمييز والتفوّق العرقي، وهي التي تدفع إلى اتخاذ تدابير إغلاق الحدود ورفض اللاجئين، وعدم الاستعداد للمساهمة في التضامن مع التحديات الإنسانية.
يتقدم اليمين لأسباب عديدة، منها تفاقم الأزمات الاقتصادية التي تؤدي إلى تدهور مستويات المعيشة، وأزمات اجتماعية وأمنية تقود إلى الشعور بالتهديد من المهاجرين
اليمين يتقدم وسيتقدم لأسباب كثيرة، من أبرزها ما يمكن إجماله في النقاط الآتية، إلى جانب كل ما قاله الخبراء حول دور الأزمات الاقتصادية بما تجره من بطالةٍ وتدهور في المعيشة، وأزمات اجتماعية وأمنية تقود إلى الشعور بالتهديد من المهاجرين، وتقديمه للإجابات السهلة:
- كيف يمكننا أن ننظر إلى نظام ديمقراطي بإيجابية مفرطة إذا كان الناس الذين يعيشون في مداره لا يدركون نتائج أفعالهم وسلوكاتهم ونمط حياتهم على بقية العالم؟ كيف لهذا النظام أن يصنع لنفسه وجهًا أخلاقيًّا وهو يدفع الناس للتركيز على ما هو استهلاكي، مثل تخفيض أسعار البنزين والسماح باقتناء السيارات، دون التفكير بما هو وراء ذلك من استغلال أو أضرار بيئية؟ بعبارة أخرى؛ كيف يمكن صياغة أهداف إنسانية لمجتمع من المجتمعات إذا لم يكن يبالي بأحوال الكل الإنساني؟
- المجتمع الأبيض مدمر كليًّا بسبب النظام الرأسمالي في الوقت الحالي، وبسبب آثار إرثه الاستعماري السابق. هذان هما العاملان اللذان يتحكمان في طريقة رؤية الأوروبيين لأنفسهم وللآخرين، وبسببهما تتصاعد موجات العنصرية.
- ظهور المجتمعات الأوروبية بمظهر الضحية لأحزاب اليمين المتطرف يخفي حقيقة مهمة، وهي أنها من ساعدت في خلقه ونموه، من خلال القبول الضمني أو الدعم أو الجهل. وخطورة رواية الضحية هنا أنها تعفي، أفرادًا ومؤسسات، من تحمّل المسؤولية، مما يساهم في إدامة القهر الذي تسبّبه الصور النمطية والتهميش والكراهية.
- كل الحديث عن العدالة والتنوّع الذي يجري تداوله في المجال العام يظل محصورًا ضمن مساحات غير مؤثرة، ففي آخر الأمر سيختار رجال بيض كلَّ ما يريده المجتمع، دون مبالاة بآراء النساء، أو الناس من خلفيات ثقافية أخرى.
- مع انعدام الوسائل أمام المواطن العادي لتشكيل صورة وافية عن السياسة الدولية، يصبح من السهل إجراء غسيل أدمغة جماعي، خصوصًا مع سيطرة سردية واحدة على كل المنابر لا هدف لها غير بقاء النظام. وحين لا يكون هدف الإعلام تقديم الحقائق، بل نشر الرسائل والأفكار التي تعزز مصالح معينة أو توجه الرأي العام نحو أهداف محددة، ، فإن الطبيعي هو حدوث نوع من الاستعباد الجماعي.
- بعد كل المشاكل التي نعرفها عن أوروبا، سيكون من المثير للحزن حقًّا أن يتذكر كلٌّ منا أن هذا المكان هو الأفضل في العالم. وإذا كان هذا أفضل ما فيه، فياله من عالم شديد البؤس فعلًا!
تعكس نتائج الانتخابات الأوروبية حقيقة المشهد السياسي والاجتماعي في قارة تزداد تأزمًا، لكنها في الوقت نفسه لا تُظهر أننا بحاجة إلى فهم المؤثرات على توجهات الناخبين وسلوكهم السياسي، بل يكفينا ما تُقدمه من صورة مقربة لإنسان زماننا الغارق في أنانيته، البعيد عن الآخرين، والذي لا يبالي بأي مصير جماعي يوحّد البشر، والذي صنعه النظام الرأسمالي عبر عملية تاريخية مديدة، لتكون سلوكاته وقيمه في فائدة السلطة.
ربما يتمتع الأفراد بالمسؤولية عن خياراتهم وأفعالهم، لكنّ النظام الذي يُوفر لهم إمكانيات التعليم والمعلومات وفرص العمل والحياة الأفضل لا يضمن الوعي بالضرورة، أو لا يريد لهم ذلك. وسوى أن هناك من يختارون الجهل أو اللامبالاة، فإن النظام نفسه يدفع من لعزل الناس عن المسائل الجماعية التي تؤثر على مصيرهم الشخصي ومصير البشرية ككل.
يتطلب ذلك عملًا واسعًا في المجال العام على معالجة أوجه عدم المساواة التي قد تنشأ نتيجة الجهل أو اللامبالاة، وترسيخ مكانة حقوق الإنسان بوصفها القيم الأساسية التي تضمن الوعي بالمسؤولية الجماعية وبأهمية التضامن الإنساني. كما يتعين تعزيز التشريعات التي تكافح مختلف أشكال التمييز والكراهية، وتضمن العدالة للجميع، في المعاملة والفرص معًا.