في أحد أيام العمل المعتادة في مختبر جامعة ديوك، جلس اثنان من القرود في غرفتين منفصلتين، يشاهد كل منهما شاشة تعرض صورة ذراع افتراضي. كانت مهمة القرين توجيه الذراع من وسط الشاشة إلى الهدف، وعندما فعلا ذلك بنجاح، كافأهما الباحثون برشفات من العصير.
منذ عقود تحلم وكالة البحوث التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية بدمج البشر والآلات وخلق جنود خارقين، ويبدو أنها على مقربة من ذلك
قد تبدو تجربة عادية في نظرك، إلا لو علمت أن القردين لم يزودا بعصا تحكم أو أي أداة أخرى يمنكمها من خلالها تحريك الذراع. لقد فعلا ذلك بدماغيهما! نعم هذا فعلًا ما حدث، عن طريق أقطاب كهربائية مزروعة في أجزاء من دماغيهما مسؤولة عن الحركة. تلتقط هذه الأقطاب النشاط العصبي وتنقله من خلال اتصال سلكي لأجهزة الكمبيوتر.
اقرأ/ي أيضًا: كيف يعيد الذكاء الاصطناعي إنتاج القمع السياسي في العالم؟
ولجعل الأمور أكثر إثارة للاهتمام، كان أحد القردين يوجه الحركات الأفقية فقط، بينما الآخر يوجه الحركات الرأسية، وبعد ذلك بدأ القردان في التعلم خلال الارتباط الشرطي بأن طريقة معينة من التفكير تؤدي إلى حركة الذراع.
يأمل ميغيل نيكوليليس، الذي قاد هذا البحث، في استخدام دراسته لإسراع تأهيل الأشخاص الذين يعانون من أضرار عصبية، بحيث يعمل دماغ الشخص السليم بشكل تفاعلي مع دماغ مريض السكتة الدماغية؛ كي يتعلم بسرعة أكبر كيفية التحدث أو تحريك جزء من الجسم المشلول.
الجنود الخارقون قادمون
يتم السيطرة على العقل من خلال إنشاء رابط بين الدماغ وجهاز خارجي. وإحدى الطرق لعمل ذلك هي ترجمة موجات الدماغ إلى أوامر من خلال النشاط الكهربائي للمخ.
من جهة أخرى، صرحت وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية (داربا)، الذراع البحثي لوزارة الدفاع، في بيان لها صدر في 20 أيار/مايو الماضي، برغبتها في تطوير أجهزة تتيح للجنود التحكم في الآلات بعقولهم، باستخدام تقنيات مثل الهندسة الوراثية للدماغ البشري، وتكنولوجيا النانو، والأشعة تحت الحمراء.
ومنحت الوكالة لذلك تمويلًا لستِّ جهات لدعم مشروع الجيل التالي للتكنولوجيا العصبية غير الجراحية، والذي أسمته "N3"، منها: معهد باتيل ميموريال، وجامعة كارنيجي ميلون، ومختبر الفيزياء التطبيقية بجامعة جونز هوبكنز، ومركز بالو ألتو للأبحاث (PARC)، وجامعة رايس، وذلك بهدف تطوير واجهات بينية عالية الدقة وثنائية الاتجاه للتحكم في الدماغ، وقابلة للارتداء، ويمكن استخدامها في أغراض الأمن القومي، مثل أنظمة الدفاع السيبراني.
ذلك دون الحاجة لزرع جهاز داخل أدمغة البشر، ودون الحاجة إلى أي لوحات مفاتيح أو لوحات تحكم للعمل، لكن قد يضطر الجندي لابتلاع حبة، أو يتم حقنه بمادة ما، مثل مواد نانوية مغناطيسية يمكن حقنها في المخ.
وتشمل بعض الحلول الممكنة، ارتداء خوذات أو سماعات للرأس. وتتضمن إمكانيات هذه التكنولوجيا السيطرة على آلاف من الطائرات بدون طيار أو الدبابات، مثلما يمكن أن تستخدم هذه التقنية لإرسال الصور من دماغ إلى آخر، بجانب إمكانية شعور الجنود بالمتسللين أو الخروقات الأمنية للأنظمة.
ويشمل البرنامج عدة مراحل:
المرحلة الأولى: متخصصة في البحث في طرق تحفيز الدماغ من خلال الجمجمة في مدة تصل لـ50 مللي ثانية فقط، والتفاعل مع أكثر من 16 موقعًا مختلفًا بالدماغ بدقة واحد ملليمتر مكعب.
المرحلة الثانية: سيتعين على الفرق في هذه المرحلة تطوير أجهزة عمل واختبارها على الحيوانات الحية.
المرحلة الثالثة: تتمثل في اختبار هذه الأجهزة على البشر. وإجمالًا، من المقرر أن يستمر البرنامج مدة أربع سنوات.
وترفض داربا التعليق على حجم التمويل المرصود لهذا المشروع، لكن يفيد اثنان من الفرق المشاركة عن حصولها على منح تقارب 20 مليون دولار.
جدير بالذكر أن داربا أطلقت برنامجها N3 عام 2018، للسماح باتصالات دقيقة وعالية الجودة بخلايا عصبية، أو مجموعات معينة من الخلايا العصبية.
هل نشهد ميلاد الإنسان الخارق قريبًا؟
شهد علم الأعصاب تطورًا هائلًا من ناحية التقنيات العصبية، مثل تخطيط خرائط الدماغ، التي توضح عمل الدوائر المعقدة التي تحكم الإدراك والعاطفة والحركة، وكذا الخوارزميات المستخدمة لفك تشفير أو تحفيز هذه الخلايا العصبية.
ويمكن استخدام ذلك لتطوير أطراف اصطناعية يمكن أن تنقل الإحساس لمستخدميها، كما يمكن استخدامها لإيجاد سبل لعلاج مرض الشلل الرعاش، وحتى الاكتئاب وغيره من الاضطرابات النفسية.
وفي عام 2005، استطاع فريق من العلماء قراءة العقل البشري من خلال التصوير بالرنين المغناطيسيالوظيفي (fMRI)، وهي تقنية تقيس تدفق الدم الناجم عن نشاط الدماغ من خلال جعل المشاركين في التجربة يتمددون داخل جهاز الرنين المغناطيسي، وهم يشاهدون شاشة صغيرة تعرض بعض المؤثرات البصرية، ومن ثم قياس النشاط العصبي الناتج وفك تشفيره.
وفي عام 2006، استطاع العلماء زرع شريحة بلغ حجمها أقل من خُمس بوصة في دماغ ماثيو ناغل، البالغ من العمر 26 عامًا الذي تعرض للطعن في المدرسة الثانوية في الرقبة ما تسبب في إصابته بشلل ما بعد الكتفين. واستطاع ناغل بعد وضع الأقطاب الكهربائية التي تتحكم في الحركة، أن يحرك ذراعه في خلال أيام، مثلما استطاع أن يحرك مؤشر الفأرة وحتى فتح البريد الإلكتروني، فقط عن طريق التفكير فحسب.
وفي سلسلة من التجارب عام 2011 في جامعة كاليفورنيا، استطاع العلماء فك تشفير نشاط الدماغ عند مشاهدة بعض المقاطع الفيلمية القصيرة، وإعادة بناء هذه المقاطع بناءً على النشاط الدماغي وحسب، لذا يرى عديد العلماء أن قراءة العقل ستكون تقنية متاحة عاجلًا وليس آجلًا، ومن الممكن أن يحدث ذلك خلال حياتنا الحالية.
وفي عام 2013، تمكن فريق سوسومو تونيغاوا الحائز جائزة نوبل، من زرع ذاكرة زائفة في فأر، حيث وضع الباحثون فأرًا في حاوية وراقبوا حركته أثناء تعرفه على المكان من حوله.
واستطاع الباحثون التقاط الإشارات العصبية وإيجاد الشبكة الدقيقة من الخلايا التي تم تحفيزها في منطقة الحصين من بين الملايين، التي تشكل ذاكرة المكان.
وفي اليوم التالي، وضع الباحثون الفأر في حاوية جديدة، ثم أحدثوا صدمة كهربائية لتنشيط الخلايا التي كان الفأر يستخدمها في اليوم السابق للتعرف إلى المكان، وعندما وضع الفأر في الحاوية الأولى تجمد من الخوف.
وتشهد مثل هذه الأبحاث تطورًا متسارعًا، بفضل التمويل الباذخ الذي تخصصه الحكومات لها، ففي عام 2013، أطلقت الولايات المتحدة مبادرة Brain، التي خصص لها مئات الملايين، كما خصص الاتحاد الأوروبي في العام ذاته نحو 1.34 مليار دولار لمشروع الدماغ البشري الذي تصل مدته لـ10 سنوات. ويهدف كلا البرنامجين إلى تحديد بنية الدماغ والتنصت على النشاط الكهربائي لمليارات الخلايا العصبية.
وفي عام 2014، أطلقت اليابان مبادرة Brain/Minds لرسم خرائط الدماغ باستخدام تقنيات عصبية متطورة لدراسة الأمراض.
وفي عام 2014، ارتدى جوليانو بينتو، البالغ من العمر 29 عامًا، والذي يعاني من الشلل التام، هيكلًا روبوتًيا يتحكم فيه باستخدام إشارات دماغه، ذلك في افتتاح بطولة كأس العالم في البرازيل. والتقطت الخوذة فوق رأس بينتو إشارات من دماغه تفيد بنيته لركل الكرة، تلقي جهاز الكمبيوتر الخاص به والمحمول على ظهره هذه الإشارات، ووجه الأمر للبدلة الروبوتية للقيام بالركلة.
وفي عام 2015، تمكن علماء بمعهد سكريبس للأبحاث من اكتشاف مركب تم حقنه بفئران التجارب يمكن عن طريقه إزالة ذاكرة معينة، دون إلحاق الضرر ببقية الذكريات الأخرى، ويأمل العلماء من استخدام هذا النوع من التكنولوجيا في محو الصدمات المرتبطة باضطراب ما بعد الكرب والقضاء على التفكير المؤلم، وبالتالي تحسين نوعية حياة الشخص.
هل يسيطر الجنود الخارقون على العالم بأدمغتهم؟
تحلم داربا منذ عقود بدمج البشر والآلات، وخلق جنود خارقين يمكنهم العمل طوال اليوم على مدار الأسبوع دون نوم. واستثمرت الوكالة مليارات الدولارات لعمل هياكل روبوتية للجنود، تتيح لهم حمل أشياء أثقل، والركض على نحو أسرع وحتى القفز.
وعندما أثار الأمر جدلًا حول استخدام هذه الأجهزة في التحكم في العقول، أعلنت داربا أن الغرض من أبحاثها يقتصر على علاج الإصابات والشفاء من الأمراض وليس تطوير أسلحة؛ لذا من سيعترض حينها إذا كان الأمر يتعلق بالعلاج والرعاية الصحية؟!
لكن في عرض تقديمي لأحد مديري برامج داربا عام 2015، قال إن غرض هذه الأبحاث هو تحرير العقل من قيود الجسد، أي بغرض تعزيز القدرات البشرية.
وهناك مخاوف تثيرها هذه الابتكارات، فهي سلاح ذو حدين، فمثلما تستخدم في حل المشكلات الطبية، يمكن أن تستخدم على نحو لأغراض عسكرية، فقد استطاعت امرأة مصابة بشلل رباعي قيادة طائرة من طراز F-35 فقط باستخدام عقلها، عن طريق جهاز زرع في دماغها طورته وكالة داربا!
إذًا، لم يعد التلاعب بالعقول من قبل الحكومات أمرًا حكرًا على نظريات المؤامرة، فقد أجرى الاتحاد السوفيتي سلسلة من التجارب بين أعوام 1981 و1990، بهدف إحداث اضطراب في عمل الخلايا العصبية في الجسم والدماغ من خلال تعريض الناس لمستويات مختلفة من الإشعاع الكهرومغناطيسي عالي التردد، فقد أنفق الاتحاد السوفيتي على مدى عقود أكثر من مليار دولار على خطط للتحكم في العقول.
وتعد أكثر الأمثلة على مثل هذه الممارسات التي يعتبرها كثيرون بمثابة انتهاكات، الأبحاث التي أجرتها الولايات المتحدة في الفترة ما بين الخمسينات والستينات، من أجل رصد الأفكار الإنسانية والتأثير عليها.
أطلق على تحقيقات وكالة الاستخبارات المركزية اسم "MK-Ultra"، وهدفت إلى البحث وتطوير المواد الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية القادرة على الاستخدام في عمليات سرية؛ للسيطرة على السلوك البشري، وشاركت في هذه الأبحاث نحو 80 مؤسسة، بما في ذلك 44 كلية وجامعة وجرى تمويل هذه الأبحاث تحت ستار أهداف علمية أخرى.
ورغم أنه لا توجد أدلة على استخدام التكنولوجيا العصبية لأغراض عسكرية وأمنية، إلا أن الولايات تبدي اهتمامها الشديد للتقدم وحتى تخطّي الصدارة في هذا الميدان.
ويمول الجيش الأمريكي مختلف المجالات العلمية، بما في ذلك الهندسة وعلوم الكمبيوتر فقد خصصت الولايات المتحدة للجيش في عام 2011 55 مليون دولار، وللبحرية 34 مليون دولار، ولسلاح الجو 24 مليون دولار لمتابعة أبحاث العلوم العصبية، مثلما تقدر الميزانية السنوية لداربا بنحو ثلاث مليارات دولار.
فمن جانب، يمكن للآلات التي تستخدم لمسح الدماغ بهدف تشخيص مرض الزهايمر أو التوحد، قراءة الأفكار الخاصة بشخص ما. ويمكن استخدام أنظمة الكمبيوتر المتصلة بأنسجة المخ، التي تسمح للمصابين بالشلل بالتحكم في الزوائد الآلية، من خلال التفكير وحسب، في التحكم في الجنود وتوجيههم أو قيادة طائرة عن بعد، أو يمكن استخدام الأجهزة المصممة لمساعدة الأدمغة المتضررة من التدهور في زرع ذكريات جديدة، أو التخلص من بعض الذكريات.
على الجانب الآخر، ماذا لو كان بإمكاننا دمج إشارات الدماغ بين شخصين أو أكثر لخلق محارب خارق؟ وماذا لو استطعنا الحصول على الخبرة الفكرية لهنري كيسنجر، الذي يعرف كل شيء عن الدبلوماسية والسياسة الأمريكية، ثم دمجناها مع علم شخص خبير في الإستراتيجية العسكرية، ثم أضفنا إليها خبرة مهندس في وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة للدفاع الأمريكي (داربا)؟
على الأرجح أن ذلك قد يخلق شخصًا ذو معرفة شبه غير مسبوقة، يمكن استخدامها في القرارات الخطيرة والمصيرية. فجعل الجنود بلا قيود جسدية أو فسيولوجية أو معرفية يمكن أن يفتح لهم الباب للسيطرة على غيرهم من بني البشر في المستقبل.
علاوة على ذلك، تتطور هذه التقنيات بسرعة كبيرة، أي أن استخدامها وتسويقها للعامة أمر لا مفر منه في نهاية المطاف لأسباب تتعلق بالتجارة والربح على الأقل، وكثير من الحكومات بدأت في حشد الأموال واستثمارها في تطوير هذه التقنيات مثل داربا، فقد بدأت الوكالة في عام 2014 تطوير أجهزة تزرع في الدماغ، يمكنها تنشيط الرغبات أو كبحها.
تعلن الوكالة أن هذه الأبحاث بغرض معالجة المحاربين القدماء الذين يعانون من حالات، مثل الاكتئاب والإدمان، لكن يمكن استخدام هذا النوع من التقنيات كسلاح خاصة مع انتشارها، فالمسالة ليست "هل من الممكن أن تقع في الأيدي الخطأ؟"، ولكن "متى وأين؟".
ويحذر علماء من أنه في حالة عدم وجود إطار قانوني يحكم هذه الأدوات، فإن هذه التقنيات يمكن أن تنتقل من المختبر إلى العالم الخارجي مباشرة دون أي عائق، لذا يرى بعضهم أن ساحات القتال ستنتقل من أرض المعارك إلى الأدمغة.
وما يثير القلق أن عدد قليل جدًا من الاتفاقيات الدولية أو حتى القوانين الوطنية تحمي بشكل فعال الخصوصية الشخصية، لكنها لا تتعرض لتقنيات الدماغ.
ولا توجد سوى معاهدتي الأمم المتحدة الحاليتين: وهما اتفاقية الأسلحة البيولوجية، واتفاقية الأسلحة الكيميائية، لكن لا تتضمن أي منهما أحكامًا بشأن الأسلحة الإلكترونية، فلم تتطرق هذه الاتفاقيات للتكنولوجيات الناشئة.
لذا يضغط علماء الأخلاق من أجل إشراك علماء الأعصاب خلال المراجعات الدورية للاتفاقية، فالسياسيون ليس لديهم فهم لمدى خطورة التهديد الذي تشكله. ويدعو بعضهم إلى ضرورة أن تنشيء المعاهد الوطنية للصحة برنامجًا دائمًا لأبحاث أخلاقيات الأعصاب.
وهناك أيضًا مخاوف صحية من استخدام هذه التكنولوجيا في التحكم بالعقل، فيمكن للتحفيز بواسطة الموجات فوق الصوتية إثارة النشاط العصبي في الدماغ أو إيقافه، فهي تقنية تستخدم عادة لعلاج مرضى الصرع، ومثلما تشكل فائدة فهي أيضًا يمكن أن تسبب ضررًا، مثلما يمكن لهذه التكنولوجيا التي تستخدم لاختراق دماغ الناس وتغيير النشاط العصبي في إلحاق الأذى بهم.
كما أن ارتداء خوذة تبث موجات كهرومغناطيسية لفترات طويلة من الزمن، يثير مخاوف من احتمالية الإصابة بسرطان الدماغ، وأنواع أخرى من السرطانات.
لم يعد التلاعب بالعقول من قبل الحكومات، نظرية مؤامرة، فمنذ عقود تجري العديد من الحكومات أبحاثًا قطعت فيها أشواطًا كبيرة
لكن في واقع الأمر، ليست داربا الوحيدة التي تفكر في دمج العقل والآلة، فشركات مثل فيسبوك ورواد أعمال مثل إلون ماسك يستثمرون في تطوير تقنيات مماثلة.
اقرأ/ي أيضًا: