من ورشة معدة على يد "خبراء ومهندسين"، تنطلق عربة غريبة الشكل بسرعة كبيرة بين أزقة ضيقة تحمل كميات كبيرة من المواد المتفجرة، ترصدها من السماء بعدسة كاميرا طائرة مسيرة صغيرة، تتبعها حتى لحظة انفجارها قرب آليات للقوات العراقية أو تجمع لمقاتلين من الحشد الشعبي، موقعة عشرات القتلى والجرحى، في مشهد تكرر مئات المرات خلال معارك التحرير التي خاضتها القوات العراقية لطرد تنظيم داعش من المدن التي سيطر عليها بعد حزيران/ يونيو 2014.
لم تكن عربات تنظيم داعش مفخخات نمطية الشكل كما هي معروفة الاستخدام في العراق وباقي دول العالم التي يضربها الإرهاب
مثلت تلك العربات التحدي الأكبر للقوات العسكرية العراقية، باعتبارها أحد أخطر التكتيكات أو الوسائل التي استخدمها التنظيم، والتي منحته أفضلية كبيرة على صعيد الاستراتيجية في المعارك وبث الفوضى في داخل المدن والقرى التي يجري فيها القتال، حيث نشر التنظيم لقطات من تلك العمليات في عدد كبير من إصدارته المرئية.
اعتمد التنظيم منذ بداية سيطرته على مناطق شمال وغربي العراق، على تكتيكات غير تقليدية، من عمليات زرع العبوات والفخاخ المكثفة التي وصلت إلى حد جنوني، إلى خلق شبكة أنفاق عملاقة تمتد على مناطق بأكملها لإخفاء وتسهيل حركة عناصر التنظيم، وهو ما مكنه من الإبقاء على خلافته المعلنة لنحو ثلاثة أعوام.
اقرأ/ي أيضًا: غابة السلاح في العراق.. العنف الذي لا تحتكره الدولة!
لم تكن عربات التنظيم مفخخات نمطية الشكل كما هي معروفة الاستخدام في العراق وباقي دول العالم التي يضربها الإرهاب، بل كانت تختلف عن سائر تلك التي تم استخدمها تاريخيًا، حيث عمد التنظيم، لى التعديل على عمل مفخخاته وأشكالها ومميزاتها من خلال تدريع عال المستوى يحمي السائق الانتحاري ومحرك العربة.
وعمد التنظيم إلى هذا الأسلوب بسبب خصائص المعركة الدفاعية التي كان يخوضها والتي ما عاد التخفي جزءًا أساسيًا منها، فمع تحول نمط عمل التنظيمات من الشبكات والخلايا إلى مسك الأرض وتجهيز جيوش والعمل بشكل مقارب ونمطي لما هي عليه الجيوش النظامية، فإن التنظيم بدأ بخوض معارك بشكل علني على الأراضي التي يسيطر عليها، الأمر الذي أنهى الحاجة إلى التخفي أو مزج عرباته المفخخة بتلك المدنية، لكون المعارك أراض مفتوحة وواضحة.
ثلاث أنواع من المفخخات
بتشكيل ثلاث وحدات خاصة في ما عُرف بـ "هيئة التطوير والتصنيع العسكري"، تمكن تنظيم داعش من تصنيع المئات من العربات المفخخة وإطلاقها لإعاقة تقدم القوات العراقية خلال المعارك التي بدأت في آذار/مارس 2015، كما يشير المختص في الشؤون الأمنية والجماعات المسلحة هشام الهاشمي.
ويقول الهاشمي لـ "ألترا صوت"، إن "العمود الفقري للوحدات الخاصة المعنية بتطوير الصناعات العسكرية في التنظيم، كان من مهندسين عملوا في هيئة التصنيع العسكري التابعة لنظام الرئيس السابق صدام حسين، فضلًا عن ضباط لديهم دورات عسكرية عالية التمكين تلقوها في روسيا والتشيك وبلغاريا".
يضيف الهاشمي أن "تلك القدرات مكنت تنظيم داعش من إنشاء مختبرات للتطوير الكيميائي للمواد المتفجرة، وإعداد عشرات الورش لتصنيع العبوات الذكية والتفخيخ الذكي، فضلًا عن الوصلات الكهربائية غير المتأثرة بالتشويش الإلكتروني"، مبينًا أن "تلك الورشات قدمت الكثير من العربات المفخخات خلال حروب التحرير".
وانقسمت العربات المفخخة للتنظيم الى ثلاث أنواع هي "العربات الاعتيادية، العربات الثنائية، والعربات المفخخة المدرعة"، بحسب الهاشمي، يعتمد النوع الأول على سيارة مدنية يتم تلغيمها بمواد شديدة التفجير، واستخدمت غالبًا في المناطق التي تم تحريرها حديثًا أو المناطق التي تخضع لسيطرة القوات العراقية.
أما النوع الثاني، فيعتمد على عربة مدرعة يعتليها رامٍ مهمته مشاغلة القوات الأمنية لتمكين الانتحاري من الوصول إلى هدفه، فيما يمثل النوع الثالث عجلات عالية التدريع بواسطة صفائح فولاذية يقودها انتحاري واحد، كما يؤكد الهاشمي.
واستخدم داعش عربات مدرعة ودبابات استولى عليها بعد انسحاب القوات العراقية من المدن في عام 2014، في تلك الهجمات، فضلًا عن عجلات تابعة لدوائر الدولة وأخرى لمدنيين جرى مصادرتها منهم من قبل عناصر التنظيم.
في هذا السياق، عانت القوات العراقية وحلفاؤها في البدء من هذه المفخخات وتأثيرها على سير المعارك، حتى تمكنت من إيجاد طرق لمكافحتها، منها استخدام صواريخ روسية وأمريكية قادرة على اختراق دروع المفخخات وتدميرها، بالإضافة إلى الاعتماد على طيران الجيش عبر الطائرات المروحية الهجومية إلى جانب طائرات التحالف الدولي، لتدمير هذه العربات قبل وصولها الى أهدافها، إذا ما تم كشفها باكرًا، للمحافظة على الصواريخ لاستخدام أشد حاجة.
اقرأ/ي أيضًا: فضيحة في العراق... المصارف "دكاكين" لتمويل "داعش"
نينوى.. معركة الـ850 سيارة مفخخة
شهدت معركة تحرير محافظة نينوى، مركزها مدينة الموصل، عاصمة الخلافة التي أعلنها تنظيم داعش، اعتمادًا كبيرًا لداعش على العربات المفخخة، في تغيير لأسلوب القتال المباشر الذي اعتمده في المعارك التي سبقتها، مستغلًا الصعوبة الجغرافية للمحافظة ووجود المدنيين في الأحياء الضيقة والذي يعرقل القصف الجوي.
في هذا الشأن، يقول الخبير العسكري عدنان الجواري، إن "تنظيم داعش غير من أسلوب إدارته للمعارك في الموصل عما كان معتمدًا في معاركه السابقة في محافظتي صلاح الدين (شمال) والأنبار (غرب) والتي اعتمد فيها أسلوب المواجهة العسكرية (الاشتباكات)"، مبينًا أن "اعتماد التنظيم على المفخخات جاء بعد أن خسر التنظيم عددًا كبيرًا من مقاتليه في المعارك، حيث بات عاجزًا عن المواجهة المباشرة، فذهب يعتمد على ذلك الأسلوب لتأجيل القضاء عليه".
وعلى الرغم من مرور نحو عام على إعلان تحرير كامل المناطق العراقية، إلا أن الحصول على رقم دقيق لعدد العربات المفخخة التي استخدمها داعش، لا زال متعذرًا، فيما تشير التقديرات الى أن التنظيم استخدم نحو 850 عربة مفخخة في معركة تحرير نينوى وحدها، بحسب إحصائيات مواقع تابعة للتنظيم، كما يقول الهاشمي.
مع خسارة التنظيم للأراضي التي يسيطر عليها ومعها المنافذ الحدودية التي كان يتحكم بها ويقوم عبرها بتصدير موارده واستيراد عتاده، وكذا الانتحاريين المتطوعين ومواده الضرورية للاستمرار في القتال، فقد التنظيم بذلك جزءًا كبيرة من قدرته على تصنيع وإرسال المفخخات، إلى الحد الذي ما عاد يجد معه ما يستخدمه لتدريع مفخخاته، أو إيجاد انتحاريين، كما أثبتت ذلك مقاطع الفيديو الدعائية التي نشرها التنظيم في الأيام الأخيرة من معركة تحرير الموصل، والتي تظهر هجمات انتحارية بالمفخخات بمدد زمنية متباعدة جدًا، على العكس مما كان عليه استخدام التنظيم لتلك العربات في وقت سابق، بالإضافة إلى الشحة الكبيرة في أعداد الانتحاريين، إلى الدرجة التي بدا معها التنظيم، يستخدم المعاقين والجرحى وبعض قادته من كبار السن، لتنفيذ تلك العمليات، في شكل يائس من محاولات الاستمرار في القتال غير المجدي.
في النهاية، فإن التكلفة الحقيقية لإنتاج عربة مفخخة يستخدمها التنظيم غير ثابتة وتتباين حسب طبيعة العربة المستخدمة، فالتنظيم يسستخدم عربات مدنية مسروقة أو سيارات عسكرية مدرعة مثل عربات الهمر وناقلات الجنود، ليقوم بإضافة دور عليها وتفخيخها، الأمر الذي لا يضع التنظيم في حاجة كبيرة إلى المال، لكن العدة الضرورية هي التي تشح، بالإضافة إلى الانتحاريين.
استخدم داعش عربات مدرعة ودبابات استولى عليها بعد انسحاب القوات العراقية من المدن في عام 2014، فضلًا عن عجلات تابعة لدوائر الدولة وأخرى لمدنيين جرى مصادرتها منهم
وضعت هذه العوامل الأخيرة التنظيم في موقع محرج إلى الدرجة التي قام معها فعلًا بالعمل على إنتاج سيارات مفخخة يتم التحكم بها عن بعد ولا تتطلب وجود انتحاريين، بسبب قلتهم، الأمر الذي ما عاد يجدي بعد أن وقع التنظيم في محل الدفاع وخسر إمكانياته التي تتيح له توفير المواد الأولية الضرورية لإنتاج المفخخات بنمطها المعتاد، ناهيك عن صناعة مفخخات متطورة.
يعلق هشام الهاشمي على ذلك بالقول، إن "التنظيم اعتمد على العربات المفخخة بذلك الشكل خلال معاركه الدفاعية، لكنه عاد اليوم إلى استخدام الأسلوب الهجومي مجددًا بعد تحوله إلى معارك (المقاتل الشبح)، بالاعتماد على عجلات اعتيادية لتنفيذ هجمات داخل المدن عن طريق انتحاريين أو ركنها قرب التجمعات المدنية".
اقرأ/ي أيضًا: