السيدة نفيسة البيضاء، امرأة كانت حياتها بمثابة مرآة لعصرها، بحيث يمكن من خلال سيرتها الذاتية في مصر في القرن الـ18، قراءة تاريخ طويل من حياة المماليك في مصر، حتى دخول الحملة الفرنسية في عام 1798، حيث توفيت بعدها بنحو عقدين من الزمان، عام 1816.
نصيبها من اسمها.. ونصيبها من الثراء
"نفيسة البيضاء"، لاسمها وحده قصة تحول كبيرة، فمن فتاة كانت تلهو في ريف جورجيا بين أقرانها، إلى مراهقة في أسواق الجلابة، إلى محظية أهم رجل في بر مصر وقتها، وهو علي بك الكبير.
تزامن التحاق نفيسة البيضاء بجواري علي بك الكبير، باتساع حظه في الإمارة على مصر، وتحولت هي من جارية مغمورة إلى محظيته المفضلة
ويروي لنا الباحث ناصر سليمان، في بحثه عن نفيسة البيضاء، كيف أن اختيار أسماء عربية للرقيق والعبيد كان أمرًا شائعًا في مصر، ومن هنا كانت تسميتها بنفيسة، فضلًا عن أن لاسم نفيسة معزة خاصة في قلوب المصريين، كونه يرجع للسيدة نفيسة سلسلة آل بيت النبي محمد.
اقرأ/ي أيضًا: بيت الكريتلية بالقاهرة.. بوابة على عالم الخيال والأسطورة
وتذكرنا قصة البيضاء، واختطافها من أجلها وجلبها إلى القاهرة، بقصة المملوك رستم رضا، الذي اشتهر فيما بعد بمملوك نابليون، حيث تعرض هو وبعض إخوته للاختطاف وأمه كذلك، وبيعوا في سوق نخاسة بإسطنبول، وكان لا يزال في الـ13 من عمره. ثم نُقل إلى القاهرة، وبيع هناك لأحد البكوات، قبل أن ينتقل لـ"ملكية" نابليون.
كان المماليك في القرن الـ18 على رأس الهرم الاجتماعي المصري، وكانوا يسمون بـ"المصرلية"، باعتبارهم اتخذوا من مصر مجتمعًا بديلًا وجدوا فيهم أنفسهم يحظون بامتيازات عديدة على مر قرون، الأمر الذي جعلهم في النهاية إذا حظوا بالاتصال مع عائلاتهم الأصلية، يجلبونهم إلى مصر للعيش فيها، أو يرسلون لهم الهدايا والمساعدات دون أن يطلبوا العودة للعيش في بلادهم الأم.
وكانت السيدة نفسية البيضاء، تُذكر في الوثائق بنفيسة بنت عبدالله البيضاء، أولا لجهل نسب الأب الجورجي، وثانيًا لتمييزها بلون بشرتها شديدة البياض عن نظيراتها من المملوكيات.
وتزامن التحاق نفسية البيضاء ببيت علي بك الكبير، باتساع حظه في الإمارة على مصر. وتحولت من جارية مغمورة في الحرملك إلى المحظية المفضلة لرجل انفرد بالسلطة في مصر والحجاز واليمن، دون شريك تقريبًا، حتى أنه أعلن استقلاله عن الخلافة العثمانية عام 1777، وطرد الوالي العثمانلي، وصك النقود باسمه.
فُتحت طاقة القدر للشابة المملوكة، ليس فقط لجمالها وكونها المحظية المفضلة، وإنما كذلك لقوة شخصيتها وذكائها وقدرتها على التكيف بسرعة مع مجريات الأحداث، إلى قرب علي بك الكبير، ما جعله يصطفيها بدار كبيرة، آية في المعمار، تطل على بركة الأزبيكة، ذلك الحي الذي كان في تلك الفترة، من أهم أحياء الأرستقراطية في القاهرة. وزودها بـ50 جارية، يعملن على خدمتها آناء الليل وأطراف النهار.
غير أن الحياة لا تصفو دائمًا، فقد قتل وليّها علي بك الكبير بخيانة من أحد أقرب مماليكه، وهو مراد بك. وتعلمت نفيسة البيضاء من هذه التجربة أن السلطة لا تدوم، وأن القوة والحماية يتوفران لمن يبني رصيده لدى الناس، بالوقوف إلى جوارهم ومساعدتهم.
ذكاء اجتماعي وسياسي متقد
استطاعت نفيسة البيضاء أو نفيسة خاتون أن تتحلى بذكاء سياسي نادر، في فترة ضيق أفق كبير اتصف به المماليك في مصر. و لعل كل شر بادِ يحمل في باطنه خيرًا، فكان من عادة المماليك حين يموت أحدهم على يد أحدهم، أن يفتح الآخر بيت المقتول، ويرعى أرملته وجواريه، ويحافظ على مالها وعقارها دون المساس به.
كان ذلك بمثابة بروتوكول متفق عليه، عرفته تلك الحقبة، كما يُخبرنا المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي. وبطريقة أو بأخرى، أتاح ذلك لنفيسة البيضاء استقلالًا كبيرًا خارج الدائرة المملوكية، فوظفت جزءًا كبيرًا من ثروتها في الخدمة العامة، وإقامة المنشآت الحيوية للناس، فأنشأت حمامين عموميين يُخصص ريعهما لأوجه الخير. كما أسست نفيسة البيضاء كُتابًا لتعليم الأطفال والفتيان، وسبيلًا، وصهريجًا خلف باب زويلة، وأنشأت وكالة تجارية تشتمل على عدد من الحوانيت، رصدت إيجاراتها للإنفاق على الكُتّاب والسبيل.
كما أنشأت نفيسة البيضاء فوق الوكالة والحمامين، ربعًا لإسكان الفقراء بمبالغ رمزية، وقد عُرفت هذه المجموعة الإنشائية بـ"السكرية"، وهي المنطقة التي ذكرها الأديب نجيب محفوظ لاحقًا في ثلاثيته الشهيرة عن القاهرة.
وفي ظل حالة الفوضى العارمة في مصر آنذاك، وسطوة ونهب المماليك لأرزاق المصريين، وتجاوزاتهم المستمرة، كانت يدها المحسنة تمتد إلى الجميع، بما في ذلك للماليك أنفسهم، خاصة أثناء الحملة الفرنسية، حتى أن الجبرتي ذكرها في غير موضع بـ"الست نفيسة شهيرة الذكر بالخير".
نفيسة والحملة الفرنسية
توعدت الحملة الفرنسية المماليك بالويل والثبور وعظائم الأمور، وبينما فرت كثير من زوجات المماليك من قصورهن، بقيت السيدة نفيسة ومعها خدمها من الجواري والخصيان، في قصرها، ما يعطي انطباعًا بمدى صلابة المرأة، وقوة عزيمتها وثقتها بمكانتها.
و الأمر الواضح أن القرار بالبقاء لم يكن هينًا، خاصة بعد منشور نابليون الذي يتوعد فيه البكوات بسحقهم ونهب أموالهم، حتى أن الجبرتي كان يقول: "أقام في مصر كل مخاطر بنفسه لا يقدر على الحركة، ممتثلًا للقضاء، متوقعًا للمكروه، وذلك لعدم قدرته ولقلة ذات يده، وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله وما ينفقه عليهم في الغربة، فاستسلم للمقدور، ولله عاقبة الأمور".
و على الرغم من ذكاء السيدة نفيسة البيضاء في التعامل مع الحملة الفرنسية، والاحترام الذي أحاطها من رجال الحملة ومؤرخيها، إلا أنهم أرهقوها بالضرائب والجزيات، للحماية، ولتجنبيها أعمال المصادرة، كما أنها بذلت المال أيضًا لحماية غيرها من سيدات البكوات وزوجات المماليك اللاتي لم يكن لهن القدرة على دفع كل هذا المال.
بقي من آثار السيدة نفيسة البيضاء في القاهرة القليل، ومنها السبيل، الذي يسمى حتى اليوم باسمها "سبيل السيدة نفيسة البيضاء" شاهدًا على قصص عديدة أخبرنا بها الجبرتي في كتابه الأشهر "عجائب الآثار في التراجم و الأخبار"، والذي تناول فيه من بين ما تناول، قصتها، ليس فقط بوصفها واحدة من النساء ذوات الأثر الهام في فترة تاريخية مضطربة، وإنما أيضًا باعتبارها واجهة أخرى لحكم المماليك، استطاعت الخروج عن أبوية الحرملك إلى الفضاء العام، فكان بيتها ملاذًا للجواري.
كانت نفيسة البيضاء، المرأة ذات التأثير الأهم من بين النساء، وربما الرجال أيضًا، في واحدة من أكثر الفترات التي عرفتها مصر اضطرابًا
ومما يحُكى في هذا السياق، أن زوجة صائغ رومي اعتدى عليه رجال البكوات فقتلوه ونهبوه، استنجدت بنفيسة البيضاء، فآوتها في بيتها، ورفعت أيدي رجال البكوات عنها وعن مالها.
اقرأ/ي أيضًا: