عندما يعجز الناس عن تفسير حدث ما يلجؤون، غالبًا، إلى وصفه بالمؤامرة، فالتفسير بالمؤامرة هو ذاته عجز عن التفسير، وذلك على الرغم من شيوع نظرية المؤامرة في أنحاء العالم، ووجود منظرين لها ومتبنين وأنصار ومؤيدين.
نتيجة توغل رأس المال وعولمته وتوحشه، فُقدت ثقة الناس بسلطاتها الحاكمة وتكوّن انطباع أن جميع سياسات الحكومات قائمة على مصالح رأس المال وشبكاته المعقدة
الكثير من الأحداث التي تجري في عالمنا الراهن شديد التعقيد تبدأ غالبًا واضحة، ومحددة المعالم والأهداف وطرق الوصول إلى غاياتها، لكن، بعد قليل من انطلاقتها، تأخذ مسارات أخرى لم تكن في أذهان لا القائمين عليها ولا الفاعلين فيها ولا مراقبيها، ونتيجة تداخل العديد من المصالح والحسابات تبدو تلك المسارات غامضة، فتكثر محاولات التحليل والفهم وتتناقض فيما بينها ويكون من الصعب، بل من المستحيل أحيانًا، الركون إلى تفسير بعينه، أو تفسيرات بعينها، في هذه الحالة تتلاشى القدرة على التفسير، وتنهار التفاسير ذاتها، فيظهر الطريق الأكثر يسرًا وسلامة وهو المؤامرة؛ ثمة مؤامرة إذًا جعلت ذلك الحدث يتخذ تلك المسارات الغامضة. وباعتبار أن العالم الآن يعيش متداخلًا، وكونيًا، ومعولمًا، فإن كل حدث يجري في أية بقعة من العالم، يؤثر في العالم ويتأثر به معًا.
اقرأ/ي أيضًا: الآلهة التي تأكل وتشرب
ما يعزز نظرية المؤامرة حول العالم هو فقدان الثقة العامة بالحكومات. فنتيجة توغل رأس المال وعولمته وتوحشه أحيانًا كثيرة وقدرته على إيصال أشخاص واتجاهات وأحزاب وتيارات سياسية إلى السلطة، وقيام هذه السلطات بتنفيذ مصالح رأس المال عوضًا عن مصالح الناس، فُقدت إلى حد كبير ثقة الناس بسلطاتها الحاكمة وتكوّن انطباع أن جميع سياسات الحكومات قائمة على/لأجل مصالح رأس المال وشبكاته المعقدة والمنتشرة حول العالم، ولنا مثال في تعامل شرائح واسعة من الناس مع وباء كورونا مؤخرًا، واعتباره مؤامرة، ورفض قسم كبير منهم أخذ اللقاح، في تشكيك ليس بالحكومات فقط، بل في المؤسسات العلمية المهيمَن عليها من قبل رأس المال والشركات وأغنياء العالم...
لكن ما الذي يجري حقًا؟ من هم الــ "100 شخص" الذين يتحكمون بمصائر الشعوب والأفراد، وما هي "الماسونية العالمية" التي تهيمن؟ ونحن نعرف أن لا دخان بلا نار. لكن مع هذا، ليس من دليل على وجود الـ "100 شخص"، ولا على تلك القدرات الخارقة لـ "الماسونية العالمية"...
نحن نعرف أن العالم بعد الحرب العالمية الثانية تأسس وفق إرادة الدول المنتصرة ووفق طموحاتها وأطماعها، ولم يتغير فيه شيء ذي قيمة حتى يومنا هذا. فلم تزل روسيا، كوريث للاتحاد السوفييتي، منتصرة فيه حتى الآن على الرغم من النهاية الدراماتيكية للاتحاد السوفييتي، والانهيارات المتتالية لروسيا كوريث له، منذ سقوطه حتى الآن، أو على الأقل حتى فترة قريبة، وهي عضو في مجلس الأمن! ولم تزل ألمانيا المنهزمة، منهزمة في مجلس الأمن الدولي على سبيل المثال، فهي ليست عضوًا فيه، على الرغم من كل تلك الانتقالات الكبيرة التي حققتها.
أفضت سياسة القوة والهيمنة والتحكم تلك إلى تقسيم العالم وتثبيت ذلك التقسيم: الدول المستعمِرة: أوروبا وأمريكا دول قوية وغنية ومستقرة نسبيًا، والدول المستعمَرة دول ضعيفة وفقيرة ومضطربة. الدول المستعمِرة دول ديمقراطية، (انتخابات، تداول سلطة...)، فيما الدول المستعمَرة محكومة بدكتاتوريات وشموليات. هذا النظام لم يتغير على الرغم من محاولات شعوب كثيرة حول العالم تغييره (أمريكا اللاتينية، أفريقيا، والدول العربية مع بدء الربيع العربي...). بعض الدول استطاعت أن تفعّل أنظمة ديمقراطية وتنمية واقتصادًا قويًا (اليابان) لكن لم يكن لها أي تأثير -على مستوى السياسات- في العالم. فبقيت الدول الكبرى: أمريكا وأوروبا متحكمة بمصائر الشعوب والأفراد.
أفضت سياسة القوة والهيمنة والتحكم تلك إلى تقسيم العالم وتثبيت ذلك التقسيم: الدول المستعمِرة: أوروبا وأمريكا دول قوية وغنية ومستقرة نسبيًا، والدول المستعمَرة دول ضعيفة وفقيرة ومضطربة
تحول ذلك النظام إلى سيستم System، ونحن نعلم أن السيستم System يعمل معًا، متزامنًا، ومتوافقًا، دون أن تكون أجزاؤه وأجهزته، بالضرورة، عقدت اتفاقًا مباشرًا حول ذلك، أو خططت للأحداث لتكون على ما هي عليه.
اقرأ/ي أيضًا: "النخبة" تصدع المفهوم واحتضار المكانة
في بدايات الثمانينات من القرن العشرين أطلقت تاتشر (رئيسة وزراء بريطانيا) مشروعها في الرأسمالية الصلبة، فأنشأت الاقتصاد الحر، وخصخصت كل شيء بما فيه مؤسسات الحكومة (السكك الحديدية، الخطوط الجوية، البريد...الخ) وبعد فترة وجيزة حذت الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا حذوها، وعوضًا عن أن يخلخل ذلك السيستم System مكّنه، وصار جزءًا متحكمًا فيه. بعد عولمة رأس المال والشركات الاحتكارية والنمو السريع والواسع لها، تحول السيستم ذاته إلى سيستم System رأسمالي صلب يتحكم حتى في سياسات الحكومة، بل تحولت الحكومات من راع لمصالح الرأسمال ضمن سياساتها العامة إلى منفّذ لسياساته ومصالحه، وبهذا لم يعد سيستمSystem ما بعد الحرب العالمية الثانية يفرض هيمنته بالقوة العسكرية فقط، بل بقوة رأس المال المعولم أيضًا. إنما ليس بوصفهما: القوة العسكرية وقوة رأس المال المعولم، قوتين مترادفتين، متساعدتين، بل بوصفهما قوة واحدة هي قوة السيستم System ذاته.
يعيش العالم الآن ضمن هذا السيستم System المترابط، القوي، المتحكِّم والمهيمِن، والذي يعمل معًا لإدامة نفسه وإدامة تحكمه وهيمنته. يتحكم بمصائر الشعوب فيدعم دكتاتوريات هنا، وتفّهًا هناك، ويدعم انقلابات، ثورات مضادة، وتمردات، ويقمع ويشارك في قمع حركات تحرر، انتفاضات شعبية على مستوى العالم... يطلق صفات على مجموعات وأناس هنا وهناك حسب ما يريده من الرأي العام وتوجهاته، وحسب الاتجاه الذي يريد صنعه: إرهاب، يمين متطرف، يسار راديكالي...الخ، ويتحكم بمصائر الأفراد أيضًا، أنتج وطور الذكاء الاصطناعي ووضع الجميع تحت النظر والرقابة وتحت طائلة توجيه الرأي عبر التريند Trend وغيره مما بات معروفًا في عالمنا وعبر وسائل التواصل الاجتماعي... ولا تكاد فترة من الزمن تخلو من صراع ونقاشات محتدمة حول سرية معلومات الأفراد أو شيوعها وإمكانية استخدامها في وسائل التواصل وعبر الانترنت...
إنه لمن غير المفيد البحث/ أو انتظار تسريبات عما إذا كان، على سبيل المثال، تويتر وفيسبوك ويوتيوب وغيرها من وسائل التواصل قد تلقوا اتصالًا من جهات أمريكية عليا أو أوروبية لتطلب منها إغلاقًا موحدًا لحسابات ترامب، لكنهم اتخذوا بالفعل قرارًا موحدًا وأغلقوا حساباته. إنه عمل السيستم. فقد صار ترامب عبئًا ثقيلًا وغليظًا عليه، وكاد أن يُحدث فيه خللًا ما، من غير المهم أنه كان سيكون إيجابيًا أو سلبيًا، فالأمر المهم هو دوام السيستم، وأن يعمل معًا. وفي حالة ترامب فقد عمل السيستم معًا بالفعل لإزاحة أعبائه، وصنع رأيًا عالميًا موحدًا ضد ترامب تبناه حتى أولئك الأشد تضررًا من سياسة الولايات المتحدة منذ ما قبل ترامب بكثير (كالسوريين المتضررين من أوباما، والعراقيين المتضررين من بوش الابن).
من هنا أيضًا نستطيع ربما التفكّر في أمر إسرائيل، وسر هذا التكاتف الدولي تجاهها الذي لم يحدث تجاه دولة أو شعب عبر التاريخ الحديث. العالم القوي، والذي يوصف بـ "الحر" يهب هبة رجل واحد تجاه ما تريده إسرائيل، فهي حاجة السيستم للاستقرار، بعد أن كاد اليهود، بعد مذبحة النازية، أن يخلخلوه، فوجد حلًا في إيجاد "دولة" لهم بعيدة عن المركز، عن أوروبا، وفي قلب الشرق الأوسط الذي صنفه السيستم كمنطقة ستكون من أشد المناطق التهابًا وعنفًا... وكي لا تبقى خارج السيستم، كدولة شرق أوسطية، كان أن أدخلها إليه وصارت جزءًا منه: "دولة أوروبية" ليست في أوروبا".
العالم القوي الذي يوصف بـ"الحر" يهب هبة رجل واحد تجاه ما تريده إسرائيل، فهي حاجة السيستم للاستقرار
ومن هنا، أيضًا، يمكن النظر في أسباب عدم انتصار ثورات الربيع العربي في القضاء على أنظمتها السياسية التي ثارت عليها، وعدم تحقيقها أهدافها بعد إزاحة رؤوس بعض الأنظمة. فمن الصعب جدًا تغيير السيستم المهيمن والمتحكم، من الصعب اللعب في تقسيماته التاريخية للبلدان والشعوب، ومن الصعب جدًا مجابهته، فهو شديد القوة والقدرة على البقاء والاستمرار.
اقرأ/ي أيضًا: الشعبويّ رئيسًا.. ممارسة السياسة بالمقلوب
تحقيق الشعوب غاياتها وتطلعاتها في ظل هيمنة هذا السيستم System يتطلب نضالًا شعبيًا مريرًا وطويل الأمد. وهذا ما تفعله شعوب المنطقة العربية متحملة كل تلك الخسائر الهائلة وغير المسبوقة.
ربما عندما نستطيع التفكير بالسيستم بدلًا عن المؤامرة، نقترب خطوة ما من تحقيق غاياتنا.
اقرأ/ي أيضًا: