لا تمرّ الشاحنات في لبنان مرور الكرام. أقلّه في عيني السيارات القريبة التي تسير من خلفها. فهي تلفت أنظار الركّاب ليس إلى شكلها فهو يكاد يكون واحداً، ولا إلى محتوياتها فغالباً لن يظهر مضمونها أو قد تكون خالية، بل من خلال العبارات المكتوبة على حديد أقفاصها الذي يحفظ ما فيه من الداخل ويُسلّي بشكله المنقوش والمزخرف من ينظر إليه من الخارج.
تتزين الشاحنات في لبنان عادة بخواطر مالكها، والحكم التي يقتدي بها وكتابات أخرى
تسير الشاحنات في لبنان مختالة على الطرقات. تحمل في صندوقها الخلفي المتوسط الحجم والمكشوف خضاراً وفاكهة. ليمون، موز، كرز، خسّ، خيار.. كلّه محصول الموسم، زاهي اللون، طازج، ينتقل مباشرة من الأرض إلى المستهلك، من سهول الساحل وكتف الجبل ومن فسيفساء البقاع الخصبة. الشاحنات الأكبر حجماً تنقل مواد بناء، حديدًا، وحجارة، وترابًا وأمورَا أخرى.. من المصانع إلى الوِرش أو حيث يلزم الأمر. تارةً تسرع فتسابق السيارات على الطرقات، وتارةً أخرى تبطئ المسير فتعطي مجاورتها لمن حولها متعة مطالعة "خواطر" مالكها، والحكم التي يقتدي بها وكتابات أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: مافيا النقل في لبنان.. طُرُق ارتزاق ملتوية
هذه الكتابات على الشاحنات اللبنانية تميّز الشاحنة عن الأخرى وتمنحها خصوصيتها. تكسر حديّة التطابق فتعطي كل واحدة منها هويتها الخاصة، وتجعل الحديد الصامت ناطقاً بلسان حال السائق ومعبّراً عمّا يجول في باله.
البداية كانت من "الكروسري"، الذي نفّذ المطلوب. استجمع مالك الشاحنة ما له وما عليه من ذكريات، وما يستسيغه من نكات، وما يحمله في قلبه من أدعية. فعهد إلى شاب جميل الخط مهمّة تحويل الشاحنة إلى فسحته الخاصة، التي تشبهه وتعبّر عنه. فاستهل الأمر بالتضرّع إلى الله، ليس من خلال الحرز الذي يتدلّى على المرآة الأمامية فحسب، بل من خلال الأدعية أيضاً التي تتوسل رضا الله ومن ثم رضا الوالدين، بشعارات "يا الله" و"يا رب".
أو بعبارات أطول وأكثر دقّة تقول: "يا ربّ إحميها وإحمي من فيها" (الخطأ الإملائي مقصود، لأن الكتابات تكون مغلوطة في كثير من الأحيان). والعبارة قد تصبح شفافة أكثر بتوجيهها إلى "يا ناظر لي نظرة حسد أشكيك لواحد أحد"، في حين تجاورها مقولة "يخزي العين" و"ماشية والربّ راعيها" أو "عين القدرة تحميها" في تناقض ملحوظ لكنه يصبح مع الوقت مألوفاً.
آخرون يطلبون "يا رضا الله ورضا الوالدين" معاً، أو قد يغلّفون مقصدهم بشيء من الفكاهة فتأتي العبارة: "رضا الوالدين أهم من أمك وأبوك". أو قد يصبح الأمر درامياً بعبارة "لا يخيفني الموت لكن تقتلني دمعة أمي".
العبارات التي تكتب على الشاحنات اللبنانية تميزها وتمنحها خصوصيتها وتكسر حديّة التطابق فتعطي كل واحدة منها هويتها الخاصة
حبّ الوطن يأتي قبل الحبيبة على خلفيات الشاحنات. فالعلم اللبناني المنقوش بألوانه الثلاثة الأخضر والأحمر والأبيض ضروري ليعبّر عن وطنية السائق وتعلّقه بوطنه.. وفي كثير من الأحيان يقترن العلم بمطلع أغنية فيروز الأشهر "بحبك يا لبنان".
أما الحبيبة التي لا ينساها السائق، يعبّر لها على طريقته عن حبّه فهو "مجنون ليلى"، لكنه يعترف بأن "امرأة وراء المقود كارثة متجولة". في حين أن خيانة الصديق تبقى دامغة في وجدانه وبات برأيه "كلب صديق ولا صديق كلب". ومع ذلك فهو "يا جبل ما يهزك ريح"، و"احترام الكبير واجب".
هذه العبارات أعلاه لم تعد منذ أعوام حكراً على شاحنات نقل البضائع فميكروباصات نقل الركّاب والسيارات العمومية والخاصة راحت تخطّ ما في خاطرها لتوجّه رسائل "بالجملة" إلى من يهمّه الأمر.. ومن لا يهمه الأمر أيضاً!.
اقرأ/ي أيضًا:
الدرّاجة في المغرب.. عضو عزيز في الأسرة
هل يحيي قطار تونس-الجزائر مشروع قطار "الوحدة"؟