نشأ المجتمع المغربي على أهمية الصحة الجسدية والعناية بها وبذل كل ما أمكن للمحافظة عليها، ونشأ بالمقابل على كتمان كل ما يتعلق بصحته النفسية واعتبارها مُنزهة عن أي خلل.
في المقابل، تحظى الصحة النفسية باهتمام أقل بكثير وتعد رفاهية ثانوية، لا يتم الحديث عنها إلا عندما يصل الأمر إلى درجة الاعتلالات الحادة، بالرغم من التزام المغرب بخطة العمل الشاملة للصحة النفسية 2013-2030 التي وضعتها منظمة الصحة العالمية في أيار/ مايو عام 2012، والتي تهدف إلى تعزيز السلامة النفسية والوقاية من الاضطرابات النفسية وتوفير الرعاية للمصابين بها وتحسين فرص تعافيهم، إلا أن تمظهرها على أرض الواقع المغربي مايزال خجولًا.
تصف الأخصائية النفسية المغربية رحيمة عراقي درجة الوعي بأهمية الصحة النفسية عند الشباب في المغرب فتقول إن الجيل الشاب "بدأ يراعي صحته النفسية ويعي بأنها لا تقل أهمية عن صحته العضوية، إذ بدأت مفاهيم من قبيل السعي نحو توازن نفسي وتجنب الضغط النفسي تدخل ضمن مجال عنايته بذاته". وتضيف: "ساعدت في ذلك وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت في وصول الشباب إلى محتوى يغير من نظرتهم المتوارثة عن الصحة النفسية".
تحظى الصحة النفسية باهتمام أقل بكثير وتعد رفاهية ثانوية، لا يتم الحديث عنها إلا عندما يصل الأمر إلى درجة الاعتلالات الحادة، بالرغم من التزام المغرب بخطة العمل الشاملة للصحة النفسية 2013-2030 التي وضعتها منظمة الصحة العالمية عام 2012.
أثرت جائحة كورونا والحجر الصحي بشكل كبير على جميع الفئات العمرية، لكن تضرر الشباب كان بدرجة أكبر. تخبرنا الأخصائية رحيمة العراقي أن الاضطرابات النفسية كالاكتئاب والتوتر ارتفعت في صفوف الشباب بنسبة 30 بالمئة، وهذا الأمر بمثابة جرس إنذار للدولة.
عاش الشباب خلال فترة الحجر وقتًا حرجًا، إذ أن تقييد حريته في المنزل، جعلته يعيش بطريقة جديدة خالية من الأنشطة الاجتماعية التي تعَود على ممارستها ووجد نفسه يواجه أفكارًا سوداوية لوحده، خاصة مع الأخبار التهويلية عن الوضع الصحي في العالم وتطوراته وارتفاع عدد الوفيات.
ريم، فنانة شابة في أواخر العشرينات، تمارس الرسم وتعيش في العاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء. تتحدث ريم عن تأثر حياتها بالجائحة قائلة إن " الأثر الذي تركه الحجر في المنزل على صحتي العقلية والنفسية كان كبيرًا، إذ استسلمت لأفكاري الداخلية والفوضوية فتحولت من فنانة تثق في احترافيتها إلى فتاة تركز على مقارنة نفسها بفنانين جدد... انصب تركيزي على نظرة الآخرين لفني ما زاد من حدة قلقي. ما جعل الأمر يتحول إلى حلقة مفرغة أدور فيها لوحدي".
ريم العشرينية تعبر عن رأيها في مفهوم التوعية بالصحة النفسية والعقلية الذي بدأ يتحول إلى ما يشبه الموضة لدى جيلها من الشباب فتقول: "لدي شعوران متناقضان نحو هذا المفهوم، فمن جهة أحب أننا صرنا أكثر انفتاحًا في الكلام عن مشاكلنا النفسية والعقلية دون خوف الحكم علينا، وأننا بدأنا نتقبل أن طلب المساعدة من أخصائي أو أخصائية ليس بعيب، لكن بالمقابل أمقت كيف يسمح الجميع لنفسه بتقديم معلومات مغلوطة عن الصحة النفسية والعقلية على منصات مثل إنستغرام وتيكتوك. أرى فتيات صغيرات يتلقينها ويقتنعن بها، لأنهن لا يميزن بين الهاوي والأخصائي، ما يجعلهن يعتقدن أنهن يعانين من اضطرابات معينة دون الاستفادة من تشخيص صحيح".
أرقام كبيرة وجهد حكومي ضعيف
يكفي إلقاء نظرة على معطيات منظمة الصحة العالمية عن المغرب فيما يتعلق بظاهرة الانتحار لمعرفة مدى تدهور الصحة النفسية والعقلية للمغاربة، إذ احتل المغرب المرتبة الثانية عربيًا بعد مصر من حيث معدلات الانتحار حسب الاحصائيات التي أصدرتها المنظمة في اليوم العالمي لمنع الانتحار في سبتمبر/أيلول الماضي، إذ يصل المعدل إلى قرابة عشر ذكور وقرابة خمس إناث لكل ألف نسمة.
كما تدق دراسة حديثة أخرى ناقوس الخطر، إذ خلصت إلى أن أكثر من 90% من المنتحرين من النساء، وأن حالات الانتحار تنتشر أكثر في المناطق الريفية وبين العازبين والعازبات، في حين أن 50% من حالات الانتحار تحدث بين أشخاص يعانون من أوضاع اقتصادية متردية. والأرقام تزداد رعبًا عند الحديث عن الأطفال، إذ تشير دراسة أجريت عام 2016 إلى أن 16% ممن هم في سن المراهقة فكروا وخططوا للانتحار.
ورغم صعوبة حصر أسباب تردي الصحة النفسية في المغرب، إلا أن العوامل الاقتصادية لعبت دورًا كبيرًا في ذلك بعد جائحة كورونا، إذ تشير دراسة أجرتها المندوبية السامية للتخطيط سنة 2020، وتهدف إلى استقصاء أسباب الانتحار إلى أن البطالة وعدم الاستقرار المالي كانا من الدوافع الأساسية للقلق والاكتئاب بين الشباب، فقد عرف سوق العمل تراجعًا كبيرًا بسبب جائحة كوفيد-19، إذ فقد الاقتصاد الوطني 432 ألف منصب عمل، وقد طالت هذه الظروف الوسطين الحضري والقروي. وقد وصل عدد العاطلين عن العمل في المغرب حسب الدراسة إلى مليون و429 ألفًا، وازداد معدل البطالة بنسبة 2 في المئة إذ وصل 11.9 بالمئة.
"الاكتئاب والقلق والتوتر، هي الاضطرابات الشائعة عند الشباب اليوم وقد تدفعهم إلى الانتحار إذا لم تتم معالجتها مبكرًا"، هكذا تحدد الأخصائية رحيمة عراقي الحالات التي تؤدي بالشباب للإقدام على الانتحار. وتعزو بلوغ الشباب هذه الدرجة من اليأس إلى الشعور بالخزي من الاضطراب النفسي، لأن المجتمع مازال يعتبر الذهاب للعلاج عند الأخصائيين النفسيين ذهابًا إلى مستشفى الحُمَاقْ (أي المجانين)، كما يربط أي اضطراب نفسي يمر به الشخص بالحُمق، ما يعزز وصمة العار لديه فيختار إنهاء حياته بدل البحث عن العلاج.
قدم المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 2022 تقريرًا عن دراسة أنجزها حول "الصحة العقلية وأسباب الانتحار في المغرب"، خلُصت إلى رصد الخصاص في الموارد البشرية إذ نجد 454 طبيبًا نفسيًا في المغرب فقط في بلد يقدر عدد سكانها بحوالي 37 مليون نسمة، أي أن هنالك طبيبًا نفسيًا واحدًا لكل ما يقارب 82 ألف مواطن مغربي، وهذا، بالإضافة إلى ضعف استثمار الدولة في منظومة الرعاية النفسية، يعد من الأسباب التي تدفع بالأفراد إلى الضياع والانتحار.
عماد، شاب في الثلاثينيات من عمره، عمل لفترة مساعدًا اجتماعيًا في القطب الاجتماعي لمركز طب الإدمان في إقليم "شفشاون"، الذي تزداد فيه معدلات الانتحار بالمقارنة مع مدن البلاد الأخرى، إذ تقدر جمعية "شباب ضد الانتحار" تسجيل الإقليم حالة انتحار واحدة كل أسبوع في سنة 2022.
يقول عماد إن ضعف الشخصية إلى جانب الوصمة الاجتماعية سببان أساسيان في تعاطي المخدرات، حسب مشاهداته. ويضيف أن المركز يتابع "المدمنين على جميع المستويات وخاصة النفسي، لأهمية هذا الجانب في مرحلة العلاج من الإدمان. ويبقى الجو العام الذي يعيش فيه هؤلاء الشباب بحاجة إلى التحسين من أجل التعافي التام وعدم الانتكاس".
في حين تؤكد الأخصائية رحيمة عراقي على ضرورة تحسين إجراءات التوعية من طرف مؤسسات الدولة، وتسهيل الولوج إلى خدمات الصحة النفسية للجميع وإتاحة الاستشارة النفسية داخل المؤسسات التعليمية، وتكوين الأطر التعليمية في أساسيات الصحة النفسية من أجل تعزيز سياسة القرب وتنشئة أفراد واعين بأهمية سلامة صحتهم النفسية والحفاظ عليها.
وتتابع: "إن الصحة النفسية هي محور أساسي في جودة نمط الحياة ككل، فالشباب الواعي والمراعي لصحته النفسية، سيتحسن أدائه و يقدم قيمة مضافة لمجتمعه ".