منذ تأسيس خدمة الصحة العمومية في شكلها العصري بالمغرب، خلال المرحلة الاستعمارية، وهي رهينة إرهاصات مزمنة، بشكل أخف تحت نير الحماية الفرنسية، وذلك عائد لأسباب عديدة، أهمها الإقبال الضئيل عليها؛ لتعود بشكل أكبر بعد الاستقلال، وصولًا إلى اليوم، حيث الكل ينتقد أداء المرافق الصحية الوطنية.
40% من إجمالي سكان المغرب يعانون أمراضًا نفسية وعقلية، ولا يوجد سوى أقل من سرير لكل 10 آلاف مريض نفسي!
وتعد حالة هذه الأزمة مربكة، تتداخل فيها عدة عوامل، أبرزها السياسات الحكومية التي لم تجد إلى الآن شكلًا تنظيميًا ينهض بهذا القطاع. ورغم جهود كل الفاعلين، إلا أن التقارير العالمية تصنف الصحة العمومية في البلاد، تحت خانة "ضعيفة".
اقرأ/ي أيضًا: أنت في المغرب؟ إياك أن تمرض!
المرض والوفايات في أرقام
يحيل تقرير وزارة المالية المغربي لـ"نجاعة أداء وزارة الصحة"، برسم سنة 2018، إلى أرقام مخيفة حول الصحة في البلاد، إذ يرصد التقرير تفشي أمراض قاتلة بين المغاربة، فـ75% من الوفيات بالمغرب ناتجة عن أمراض القلب، و34٪ عن أمراض الأوعية الدموية و12٪ عن أمراض السكري، بينما يتذيل السرطان هذا التقسيم بـ11٪.
ويزداد الفزع أكثر مع توارد الأرقام حول الصحة النفسية، فربع المغاربة الذين يتعدى سنهم 15 سنة مصابون بالاكتئاب و9٪ منهم بالقلق المرضي و5٪ باضطرابات ذهنية، ونسبة 1% بالفصام.
وفي حين تبلغ النسبة 40٪ من مجمل سكان المغرب يعانون أمراض نفسية وعقلية، فإن التقرير الرسمي يُسجل ضعفًا كبيرًا في الوسائل الاستشفائية الخاصة بهذه الأمراض، إذ لا يحتوي المغرب بحسب وزارة الصحة، إلا على 2238 سريرًا مخصصًا للمرضى النفسيين، أي ما يمثل 0.67 سرير لكل 10 آلاف نسمة!
أما بالنسبة للأطباء، فيوجد منهم 290 طبيبًا يعالجون 9.6 مليون مغربي مريض نفسي، أما الأطباء النفسيون المختصون في الأطفال، فعددهم خمسة في القطاع العام!
كما لازالت الأمراض المعدية والوبائية تشكل جزءًا كبيرًا من الأزمة الصحية العامة في المغرب، إذ تهيمن على الحالة الوبائية في البلاد خمس أمراض، هي: الأمراض المنقولة جنسيًا، والسل، وداء الليشمانيا، والتهاب السحايا، والجذام.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، يُسجل مرض السل وحده، 27 ألف حالة جديدة كل عام، منذ العام 2012. ويتفشى المرض أساسًا وسط الهوامش الفقيرة وذات الكثافة السكانية العالية.
أزمة الاستشفاء
"إن جميع المستشفيات العمومية بما فيها المراكز الاستشفائية الجامعية، ناهيك عن مدن المغرب العميق، تعاني من نقص حاد ومزمن في الأدوية والمستلزمات الطبية ذات الحمولة الاستعجالية والضرورية، كما تفتقر بشكل كبير إلى التجهيزات الطبية، ناهيك عن الموارد البشرية من أطباء وممرضين وقابلات"، هكذا يورد تقرير الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة، مشيرًا إلى مكامن الخلل في المنظومة الصحية الوطنية، وعلى وجه الخصوص أزمة شح الدواء التي تؤرق المجتمع المغربي.
وينبه التقرير إلى أن الأزمة ليست بسبب ضعف الميزانية المخصصة لشراء الأدوية والمستلزمات الطبية، والتي تتجاوز 40% من ميزانية التسيير، وإنما بسبب "الهدر والتلاعبات والصفقات المشبوهة والموجهة، وعدم تسليم الأدوية في مواعيدها، وفق طلبات العروض والصفقة، وبسبب كذلك المركزية المفرطة لصفقات العمومية بالإدارة المركزية".
وإزاء هذا الوضع السيء للصحة في المغرب، وعدم استجابة المرافق الاستشفائية للطلب المتزايد عليها، تتعالى الصرخات المنددة بهذه الأزمة، بشكل أصبحت معه عادة طبيعية. صرخات شعبية ولا مجيب لها، بل عام بعد عام، كلما سعت الجهات المسؤولة إلى ترقيع الوضع، سقطت في خلق مشاكل أخرى، تأزمه أكثر وتعيده أكثر رداءة.
وينطبق هذا على نظام التغطية الصحية الإجباري، والذي أطلقته الحكومة المغربية سنة 2012، والذي هو تأمين صحيٌ للطبقات الهشة والمعوزة من ساكنة المملكة المغربية، إذ لم يحقق النظام أهداف توفير العلاج والدواء المجاني للفقراء والمعوزين، بسبب ضعف وتدهور المراكز والمشافي الخاصة به، والتي تدفع حتى الفقراء والمعوزين إلى التوجه للقطاع الخاص.
ومن موقع الطبيب؟
تعرف البلاد هجرة للموارد البشرية الطبية من القطاع العام إلى الخاص. وهي هجرة لا تخرج عن سياق أزمة القطاع. هكذا تكون نتيجة لضعف الرواتب ونقص الحوافز المالية، إضافةً إلى غياب الوسائل الطبية وشبه الطبية في المؤسسات العمومية، الضرورية للوفاء بقَسَم أبقراط.
ويضاف إلى ذلك التقزيم الممنهج للمزانية المخصصة لقطاع الصحة. وكما صرح أحد أطباء القطاع الخاص والذي رفض الكشف عن هويته، فإن "ضغط العمل كبير في المستشفيات والمراكز الطبية العمومية، وفي المقابل هناك ضعف واضح في التجهيزات، وقبل ذلك في المخصصات المالية لموظفي القطاع"، وهذا ما يُشكل واقع الطبيب العمومي في المغرب.
ومن زاوية أخرى، تظهر لنا تصريحات حسام سالمي، وهو طبيب مغربي في القطاع الخاص، أن لعاملين هذا القطاع "لا يقلون تضررًا عن زملائهم في القطاع العام"، مؤكدًا أن "أطباء القطاع الحر في المغرب حاليًا في وضعٍ مزرٍ".
ويضيف سالمي موضحًا، أنه "مع ضعف التغطية الصحية للمواطنين، وكذا ازدياد عدد الأطباء المتخرجين كل سنة، والذين يدفعون عنوة إلى فتح عياداتهم الخاصة التي تغلق عادة بعد مدد قصيرة بفعل إجحاف النظام الجبائي. يكابد الأطباء وضعًا مأساويًا، محرومين ذات أنفسهم من أي نظام للتغطية الصحية، ولا تقاعد، ما يجعلهم رهن البقاء في الخدمة، حتى سن متقدم من حياتهم".
ويختم قائلًا إن "النظام الجبائي مسؤول أساسي في هذه الوضعية، فهو الذي يجعل من أسعار الأدوية مرتفعة، وكذا تكاليف العلاج، مُضيقًا على الطبيب ظروف اشتغاله، وبذات الشكل يحرم المواطنين من التطبيب".
جهود الإصلاح المفتض
من جهتها، ومع تراكم أزمات القطاع الصحي، أعلنت الحكومة عن مخططات ومشاريع للنهوض بالقطاع المتردي، يأمل الناس أن تكون السلطات المعنية جادة فيما أعلنت عنه.
ضمن السياق العام لأزمة قطاع الصحة العمومي، تعرف المغرب هجرة كبيرة للموارد البشرية الطبية من القطاع العام إلى القطاع الخاص
ووضعت الحكومة ما أسمته "مخطط الصحة في أفق 2025"، والذي ينطوي على ثلاث محاور أساسية، للنهوض بقطاع الصحة في البلاد. ومع الطول النسبي لأممد الانتهاء من تنفيذ المخطط، يأمل الساكنة أن نفحة من حقوقهم الأساسية في الطبابة والاستشفاء دون الحاجة إلى دفع ثروة.
اقرأ/ي أيضًا: