في يوم من العام 1963، جلس طه حسين بين مجموعة من نجوم الفكر والأدب المصريين في ذلك الزمن: نجيب محفوظ، عبد الرحمن الشرقاوي، محمود أمين العالم، عبد الرحمن بدوي، يوسف السباعي، أنيس منصور، عبد الرحمن صدقي، ثروت أباظة، أمين يوسف غراب، كامل زهيري.
والواقع أن عميد الأدب العربي لم يجلس بينهم. لقد كان قبالتهم، على كرسي الأستاذ، وما كان الحضور، على فخامة أسمائهم، إلا سائلين اكتفوا بطرح الأسئلة والإصغاء إلى الأجوبة، دون تعليق أو مراجعة أو تفنيد..
كان اللقاء حلقة من برنامج اسمه "نجمك المفضل" بثه التلفزيون العربي (هكذا كان اسم التلفزيون المصري) في الستينات، ولقد أوصى أنيس منصور، معد البرنامج، مذيعته ليلى رستم، قبل الهواء، أن تلتزم الحذر ذلك أنها أمام ضيف غير عادي، فيجب أن لا تتنطح للتصويب أو التعقيب بملاحظة غير لائقة، فالحلقة على كل حال هي عبارة عن صورة تذكارية ناطقة سوف تخلد للتاريخ.. صورة طه حسين متحدثًا والتي يجب أن تحفظ للأجيال القادمة..
التسجيل متوفر على "يوتيوب" وهو، كما أراد صناعه، صار وثيقة تاريخية نادرة، تبين بجلاء مهابة العميد وسطوته، وإقرار الأدباء المتحلقين حوله بأستاذيته، حتى أن نجيب محفوظ نفسه ارتضى أن يلعب دور التلميذ المهذب إذ كان يفتتح أسئلته بعبارة "سيدي العميد.. لو تأذن لي". وتبين الوثيقة كذلك ما كان يتمتع به العميد من دماثة وخفة ظل، ولغة أنيقة يبرزها صوت جهوري عميق وجميل. ولقد بدا الرجل متعبًا مع ذلك، ما اضطره إلى خدش لطفه أحيانًا بأجوبة فيها بعض النزق وبعض الحدة وشيء من الاقتضاب الذي فرضه الإنهاك ولم تمله البلاغة.
يشهد مجايلو طه حسين وتلاميذه بأنه كان أبًا عطوفًا ورفيقًا بالكتاب المبتدئين، وبأنه كان ناقدًا حصيفًا غير مجامل وغير متحامل، يلتزم الموضوعية ويتسم بالتسامح والانفتاح
لم يقل طه حسين أشياء خطيرة في ذلك اللقاء، ولم يزد كثيرًا على تقديم خطوط عريضة لبعض أفكاره المبثوثة في كتبه، ومع ذلك فثمة أمور عديدة تدعو للتأمل.. ليس في كلام حسين نفسه وإنما في علاقة هذا الكلام بالزمن، في التاريخ الذي يفرض حدودًا صارمة عصية على الاختراق أمام أكبر العقول وأكثرها مرونة. فالأديب والمفكر الذي قاد ثورة تجديد في الأدب العربي، نراه هنا كيف تحول إلى محافظ لا يخلو من تشدد، وإلى أسير لأحكام ومفاهيم وتقاليد أدبية نعرف الآن أنها كانت موشكة على الأفول، إن لم تكن قد أفلت بالفعل.
نعم لقد أعلن العميد مجددًا قبوله للشعر المرسل، الشعر المنثور، مشترطًا أن ترتقي هذه الكتابة إلى مصاف الشعر بصورها وموسيقاها، وهذا موقف نادر بين مجايليه، ولكنه بالمقابل اعتبر أن القصة لتكون قصة حقيقية و"طبيعية" جديرة بالاهتمام لا بد أن تنتمي للواقعية، وما سوى ذلك هو "هذر وكلام فارغ". هكذا وصف ما عرف بالقصص الفلسفية، ولاسيما التي كتبها البير كامو وساروت وغيرهما. أما كافكا فقد اكتفى بأن علّق عليه بكلمة واحدة: "متشائم".
وكذلك فقد كان قاطعًا في إجابته الشاعر المسرحي عبد الرحمن شرقاوي الذي سأله عن جواز استخدام أكثر من بحر شعري في المسرحية الواحدة، إذ قال: لا يجوز أبدًا وهذا عيب ودليل عجز من الشاعر. ولم تجد محاولة الشرقاوي في لفت انتباه العميد إلى أن التزام البحر الواحد طيلة العمل يخلق شيئًا من الرتابة، وأن التنقل بين شخصيات مختلفة يقتضي "التلوين"، وبالتالي استخدام أكثر من بحر، ذلك أن حسين عاد ليحسم المسألة بعبارة قاطعة: هذا عيب وعجز.
وأطلق العميد حكمًا قاسيًا بحق "الجيل الجديد"، فهو جيل لا يعرف القراءة العميقة، ويكتب أكثر مما يقرأ، ولا يتبحر في قراءة التراث، ونعلم اليوم أن الجيل الذي عناه طه حسين قد أنتج أعمالًا قصصية وشعرية ومسرحية هامة كتب لها البقاء، وأن هذه النتاجات صنعت ما صار اسمه "زمن الستينات"، وهو ما نعده اليوم عصرًا ذهبيًا، نحن إليه ونبكي عليه.
وفي ختام الحلقة، ندد صاحب كتاب "الأيام" بـ"هذا العصر الجديد" الذي تشيع فيه السينما والراديو والتلفزيون والصحف فتلهي الناس عن القراءة، قراءة الكتب. ولا ندري ماذا كان الرجل ليقول لو أدرك أيامنا هذه، وعاش وسط الفيسبوك وتويتر وتلغرام والواتساب.
يشهد مجايلو طه حسين وتلاميذه بأنه كان أبًا عطوفًا ورفيقًا بالكتاب المبتدئين، وبأنه كان ناقدًا حصيفًا غير مجامل وغير متحامل، يلتزم الموضوعية ويتسم بالتسامح والانفتاح. ومن المتفق عليه، بين جيله والأجيال التالية، أنه ذو عقل فذ يرقى إلى مصاف العبقرية. ليس في الأمر عيب شخصي إذن، إنما هي حدود الزمن، وذلك الصراع الأزلي بين الأجيال، وتلك السنة الطبيعية التي لا تتغير ألا وهي حتمية التغير.
اعتدنا أن نلجأ إلى التاريخ لنأخذ دروسًا، إذا كان هذا حقًا وصوابًا، فإن هذا اللقاء التلفزيوني مع العميد، وقد صار جزءًا من التاريخ، يمكن له أن يمنحنا درسًا. بالأدق: يمكن له أن يعطينا فكرة جديرة بالتأمل. فربما يتوجب علينا أن نكون حذرين في تعاطينا مع الجديد العاصف الذي بات يحيط بنا. أن نخفف من غلوائنا في إدانته وإنكاره، أن نكون موضوعيين ومتواضعين في النظر إلى حاضرنا الذي نندبه ونخشى أفوله، أن نعطي فرصة للذائقة وللأفكار والرؤى والمذاهب والأساليب البازغة. بل أن نعطي فرصة لأنفسنا في اختبارها والإبحار معها ولو بالتخيل والاستشراف.
وماذا عن حدود زمننا؟ وهل يتحتم علينا أن ننكر أنفسنا وعقولنا وما تربينا عليه من تقاليد فكرية وأدبية وجمالية؟ هل يتوجب علينا التخلي عن أي حس نقدي وعن حقنا في الاحتجاج في سبيل تملق الجديد ومداهنة الآتي؟
على الأقل نحن نستطيع منع أنفسنا عن الانجرار وراء هذا الإغواء القديم: أن نعتقد أننا "الإنسان الأخير"، وأن القيامة وشيكة، وأن العالم ذاهب إلى الجحيم لأنه تخلى عن دروبنا التي ألفناها وأحببناها.