يحدث التغيير لأنه من صيرورة التاريخ. وقد يستلزم في الدفعة الأولى انتفاضة غاضبة للضغط باحتلال الشارع، لكن في الثانية سيحتاج للفعل السياسي، خاصة لو كان سلميًا.
منيت انتفاضات الربيع العربي بالرومانسية وغياب لرؤية واضحة لما هو مطلوب، تتبلور لفعل سياسي
والسياسة في جوهرها ضد الإقصاء، فالإقصاء ممارسة ليست ذات صلة بالسياسة بمفهومها اللغوي والاصطلاحي، كفعل تفاوضي قائم على المناورة العقلانية لتحقيق الممكن.
اقرأ/ي أيضًا: مساءلة جزائرية تأخرت "قليلًا"
لذا قد يكون ضروريًا من هذا المنطلق، أن تنتبه الحراكات الشعبية العربية الراهنة، جميعًا، إلى: أولًا ألا تقع في أخطاء الماضي الذي منيت به ثورات الربيع العربي، وثانيًا، وهو ما ذو صلة بالأول وينبني عليه، ألا تنجرف إلى خطابات إقصائية، وأن تقترب من الواقعية السياسية.
وقد يتطلب ذلك بادئ ذي بدء، تفكيك الانتفاضات العربية بنيويًا، للوصول إلى فهم دقيق لها، ومقاربتها بما تعنيه "الثورة" وبما يمكن تحقيقه، وهذا في اعتقادي هو ما تعنيه الحرية فعلًا، أي فهم الضرورة.
اعتمدت الانتفاضات العربية جميعًا على لحظة الهبة العفوية، كذروة نوعية بعد تراكم أفضى إليها. لكن ولأن جزءًا أساسيًا من بنية هذه الهبة، عفويتها، ثم سلميتها المنبنية بشكل أساسي على كونها عفوية، فقد منيت بالرومانسية، وغياب لرؤية واضحة لما هو مطلوب، سوى سقوط الرمز، ومطالب أخرى، من داخل مطلب سقوط الرمز، أو فُهم أنها ستأتي بطبيعة الحال بعد سقوط الرمز، تتمثل في الديمقراطية والحرية والعدالة والكرامة... إلخ.
إذًا لم تكن ثمة رؤية مجاوزة لراهن رحيل النظام، ولم يكن ثمة تنظيم يقود صياغة هذه الرؤية، ويمارس السياسة لتحقيقها، باعتباره ممثلًا للجماهير. هنا تلقف الأكثر جاهزية ثمار ما أنتجته الانتفاضات العربية، في كل دولة، ليعيد تشكيل جماعة هرم السلطة. وفي كل مرة كما يتضح، كان الأكثر جاهزية هي الدولة نفسها، تحديدًا كتلتها الصلبة المتمثلة في المؤسسات العسكرية.
لكن أيضًا من جهة أخرى، لم تكن المؤسسات العسكرية سلبية خلال مسارات الانتفاضات، بل كان لها الدور الرئيس في إزاحة الرموز، كما كان لها الدور في أن تَبقى الجماهير في الشارع حتى رحيل الرموز. إنها إذًا، بوضوح، في أغلب الحالات العربية، صراعات داخل تنظيمات الدول، تقاطعت مع الهبة العفوية التي مثلت في لحظة ما مبررًا للكتلة الصلبة لأن تنهي دور الرموز. هنا فعليًا، وواقعيًا بما رأيناه، ينتهي دور الحراك في الشارع، وإذا لم ينته طواعية، فإنه سينتهي بفعل الدم!
ما حدث في مصر مثلًا، أن الجموع طوعيًا أنهت حراكها، لكنها خرجت من الميدان دون أن يكون ثمة من يمثل تطلعاتها. وللحقيقة لم تكن ثمة تطلعات واضحة أكثر من رحيل مبارك وزمرته، وقد رحلوا، وأفضى المشهد صراعًا سياسيًا وأيديولوجيًا بائخًا بين النخبة السياسية الحزبية والحركية، والتي يبدو أنها فعلًا كانت بسذاجة الاعتقاد بأن تحت الرماد بردًا وسلامًا، وليس تنظيمًا قويًا ومعتقدات سياسية حاسمة وحازمة. محمد مرسي انتبه فقط لهذا التنظيم وجوهره ودوره لمّا اعتقل، وقال إن "أسرار الدولة المصرية صندوق أسود"، وكانت المرة الأولى تقريبًا التي يتحدث فيها عن "الدولة المصرية".
كما أن الصراع مع الكتلة الصلبة للدولة عربيًا أمر محكوم عليه بالفشل، أو بالدمار، كما حدث في سوريا. وهنا قد تقتضي الحكمة والضرورة، المبادرة بالفعل السياسي الذي يضمن بالمفاوضة بالشارع، الممكن من المطالب لانتقال ديمقراطي سلمي، يؤسس للعدالة والحقوق والحريات.
وبقول آخر: تمتلك تنظيمات الدول في المنطقة خبرة طويلة في التعامل مع غضبات الجماهير، وفي الكثير من الأحيان استطاعت احتواءها، لذا ليس من العدل أو الشفافية القول بأن حراكًا شعبيًا سلميًا في الشارع قد يفضي لأي تغيير، ما لم تتبنه قوة تنظيمية حاضرة بفعالية داخل السلطة، وهو ما فعلته الجيوش في ثورة 25 يناير بمصر، وفي الثورة التونسية، وأخيرًا الجزائرية والسودانية. والحقيقة أنه لولا تدخلات المؤسسات العسكرية في هذه النماذج الأربعة، لما أفضت الانتفاضات إلى شيء، أو أنها لو كانت على العكس، لأفضت إلى ما لا يُحمد عقباه بالنظر إلى سوريا، وليبيا مع الفارق.
وبالنظر والاستلهام من النموذجين المصري والتونسي، فما حدث أنه عندما سلمت السلطات العسكرية إدارة البلاد للمدنيين، ففي مصر تخيلت الجماعة الحاكمة المتشكلة من جماعة الإخوان المسلمين، أن بإمكانها الاستحواذ على مفاصل الدولة، وإجراء عمليات إحلال وتبديل، أو بصيغة أخرى: إقصاء كوادر تنظيم الدولة. السؤال هنا هو: لماذا ستقبل الدولة، وفي القلب منها المؤسسات الأمنية، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، بوضع كهذا؟! ما الذي سيجبرها؟! هذا ما لم تفهمه الجماعة الحاكمة، وعلى ما يبدو عموم النخبة السياسية في مصر، وحتى الآن.
في المقابل، تجنب السيناريو التونسي -على ما يبدو بعد لفحة هلّت من مصر- عملية الإقصاء، وأعيد تشكيل الجماعة الحاكمة بمفاوضة سياسية سلمية عاقلة. إذ كيف بالإمكان على كل حال، إقصاء آلاف، كانت بيدهم على مدار عقود مقاليد الأمر باختلاف المستويات؟! وعلى كل حال فالإقصاء عملية فاشية، والتغاضي في السياسة مهم للمصلحة العامة.
ما يؤمل إذًا في النموذجين الجزائري والسوداني، والرهان هنا على الوعي الجمعي، هو الانتقال السلس من الدفعة الأولى للتغيير السلمي، أي من الهبة الغاضبة، مع استمرار البقاء المنظم في الشارع؛ إلى الدفعة الثانية وهي الدخول في تفاوض سياسي عقلاني غير تعجيزي، ولا مهادن في نفس الوقت، مع من آلت إليهم الأمور فعليًا، أي المؤسسات والمجالس العسكرية، وترك الانشغال بمن طويت عنهم صفحة الحكم وبملفاتهم، لانشغالٍ أكثر أهمية، يراعي الطبيعة السياسية والأيديولوجية للمتفاوَض معه، ويفهم ضرورة الوقت ويراعي، بكثير من الحرص، عدم انزلاق الأمور إلى طريق مسدودة، ولو أدى ذلك إلى تخفيض سقف التطلعات دون إفراط ولا تفريط.
ما يؤمل في الجزائر والسودان، الانتقال السلس من الهبة الغاضبة، مع البقاء المنظم في الشارع، إلى الدخول في تفاوض سياسي عقلاني
وفي حين يبدو السودان على أول هذا الطريق المنشود، حتى الآن على الأقل، بتوفر ممثل سياسي تنظيمي، بمطالب محددة، ولهجة جماعية في الشارع غير صدامية؛ تُعقد الآمال على الجزائر أن يتدارك حراكها والفاعلون فيه محاولات الزج بالعنف في غماره، كما شاهدنا في ختام مسيرات الجمعة الثامنة، بأن ينتقل إلى مربع الفعل السياسي.
اقرأ/ي أيضًا: