يشعر السينمائيون السودانيون، على قلتهم، بحالة ضياع تتفاقم يوماً بعد يوم، فمنذ رحيل المخرج السوداني جاد الله جبارة، وحسين شريف، وهجرة عشرات الكوادر، امتد الفراغ ليبتلع دور العرض نفسها، وتناثر ذلك التاريخ، حتى أطل جيل أخر يحاول أن ينفض الغبار عن ذلك الرُكام.
كانت البداية الفعلية للسينما السودانية في سبعينيات القرن الماضي، حيث تم إنتاج 7 أفلام روائية طويلة أشهرها "تاجوج" و"بركة الشيخ" و"رحلة عيون"
يحلم المصور الفوتوغرافي والسينمائي طلال عفيفي، مدير "سودان فلم فاكتوري"، بإضاءة الشاشات العملاقة، وازدهار صناعة الأفلام السودانية، حيث يدير بحماس مهرجان السودان للسينما المستقلة، في دورته الثالثة، ويشارك في المهرجان 91 فيلماً من 35 بلداً عربياً وأجنبياً.
كانت الانطلاقة الأولى بتأسيس شركة السينما السودانية في العام1940، والتي أنتجت أفلامًا غنائية قصيرة لأشهر المغنيين السودانيين، لكن البداية الفعلية كانت في سبعينيات القرن الماضي، الموسومة بالعصر الذهبي، حيث تم إنتاج 7 أفلام روائية طويلة أشهرها "تاجوج" و"بركة الشيخ" و"رحلة عيون" بعدها تراجع الاهتمام بالسينما السودانية، ووصل حد الدمار، ودائمًا ما لعبت الحكومات المتعاقبة دوراً في تحطيم آمال السينمائين، وتجاهل مشروعاتهم، امتد العبث إلى دور العرض الشهيرة في الخرطوم، وأضحت اليوم أثراً بعد عين.
رغم عدم وجود كليات ومعاهد متخصصة لدراسة السينما، وموت كثير من المواهب بحسرة العبقرية، إلا أن الشاب طلال عفيفي ظل يكافح من خلال مهرجان السينما المستقلة، أو بالأحرى يعمل بما في وسعه من جهد، في تيسير الفرص لتدريب الشباب على مجالات السينما المختلفة، وابتعاث بعضهم إلى الخارج، وأكثر ما يحزن أبناء جيله أن السينما السودانية تحتفل بمئويتها، وفي نفس الوقت، تعاني تدهور شديد، والمدهش في الأمر، أن الأفلام المنتقاة بعناية في مهرجان السينما السودانية المستقلة، تعرض في أماكن بديلة لدور العرض الأساسية.
لعبت الحكومات المتعاقبة دوراً في تحطيم آمال السينمائين في السودان، وتجاهل مشروعاتهم وامتد العبث إلى دور العرض الشهيرة في الخرطوم
الغربة التي ابتعلت آلاف الشباب، لم تستثن المبدعين، حتى أن حسين شريف نفسه، "المخرج العظيم"، أو أيقونة السينما كما يصوره تلامذته ويحتفي به المهرجان، مات في القاهرة قبيل سنوات دون أن يكمل عمله الأخير "التراب والياقوت"، والذي هو عبارة عن تأويل سينمائي من سبعة قصائد لشعراء سودانيين. وبرز نتيجة لموجة الهجرة الجماعية، ما عرف بسينما المهجر، والتي بذلت عشرات الأفلام القصيرة، أشهرها (دائرة الألم) و(يوميات في المنفى).
منذ أيام، تم افتتاح مهرجان السينما السودانية المستقلة، وتداعى له عشاق السينما من كل حدب وصوب، وخصصت فيه جائزة لأفضل فيلم سينمائي سوداني، واختيرت جزيرة توتي، وسط الخرطوم، مكاناً لحفل البداية، ونصبت شاشة عملاقة قرب الجسر، ليبدو مشهد الاحتفال نفسه سينمائياً، وكان ضيف المهرجان المخرج الألماني شاهين رياتز. تم في تلك الليلة عرض فيلم "المطلوبون الـ18" وهو فيلم فلسطيني تعلق به الكثيرون، وهو يعبر عن أوجه المحنة تحت الاحتلال بشكل فني خلاق وساخر، عرَض الفيلم في الخرطوم للمفارقة تزامن مع تصاعد لهجة التطبيع الحكومية مع إسرائيل!
يقول طلال عفيفي إن "المهرجان يختار كل عام قيمة يتحرك حولها ويتفاعل معها، في العام الأول اختار الأفريقانية كمفهوم ثقافي ومنظور للعمل الفني، وفي العام الثاني اختار فكرة التجسير والربط بين الثقافات، وكان تحديد "طابية أم درمان" التي شهدت المعارك الضارية بين القادمين على مركب البوردين، مسلحين بالمكسيم، في مواجهة المقاومين الأشاوس السودانيين المرتكزين أمام النهر". يضيف عفيفي: "بدلاً من المواجهة كان الحوار، فرأينا ممثلي المراكز الثقافية الأوروبية يجلسون جنباً إلى جنب أبناء السودان، يشاهدون معاً الأفلام بدلاً من الاستماع لدوي الرصاص". وعن دلالة اختيار إسم "الفيل الأسود" كجائزة لأفضل فيلم سوداني، يقول طلال: "الفيل أحد أقوى وأعظم المخلوقات على وجه الأرض، لكن القوة والعظمة هاتين لم تكونا إلا سبباً للهدوء والسلام".
يقول المخرج السينمائي المهاجر وجدي كامل لـ"ألترا صوت" إن "توقف دور العرض عن العمل لم يتم لعدم وجود أفلام سودانية، وإنما لغياب منظومة الاستيراد والتوزيع بالبلاد بعد حل مؤسسة السينما، وفشل تجار الشنطة في القيام بسد ذلك العجز". ويضيف: "تم الأمر أيضاً بسبب السياسات الضريبية، وعدم مواكبة الاستيراد للأفلام المنتجة حديثاً، مقارنة بما كان يجري سابقًا حيث كانت تعرض بالخرطوم والأقاليم في ذات الأسبوع أحدث الافلام العالمية"، وحول نهوض السينما، يشير وجدي إلى عدة أسباب منها أن "تنشأ بنية تحتية تعتمد على التكنولوجيا الجديدة للعروض السينمائية، إضافة إلى توفير أفلام روائية طويلة تستجيب لمتطلبات الصناعة المحترفة".
مهرجان السينما السودانية المستقلة بالنسبة لوجدي هو فعالية تعمل على عرض تجارب فيلمية تم تنفيذها أو تحقيقها بأيادي شباب وشابات سودانيات، غالبًا ما ذهبوا الي الكاميرات الرقمية للتعبير عن أنفسهم، وهم بذلك أصحاب إنتاج تجريبي لم يخضع بعد الي المعاينة الاحترافية المطلوبة، ويصفه: "هو إنتاج مناسبات ثقافية وليست تجارية". أما شاشات دور العرض فهي عناوين لعروض تتوفر فيها الشروط التجارية التي تبدأ من نوعية التصوير ومقاس الفيلم الزمني وأهمية خضوع ذلك للجان مشاهدة وطنية متخصصة وقبل كل شي وجود تراخيص بممارسة المهنة .
السؤال الذي يقض مضجع الكثيرين ومن ضمنهم طلال عفيفي ووجدي كامل هو كيف يمكن أن تنهض السينما السودانية؟ وبينما يحاول طلال أن يفتح ثغرة على الجدار، تتفرج الحكومة الحالية على محنة السينما، ولا تبدي أي رغبة في تطويرها، إذ يكاد يكون هذا الفن العالمي في ذيل قائمة الإهتمامات الرسمية، ويتم الاكتفاء بحضور بعض الفعاليات وإلقاء الوعود التخديرية.
اقرأ/ي أيضًا: