في 20 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2019، غيّب الموت الأستاذ عصام سخنيني. المؤرخ والباحث الفلسطيني رحل بهدوءٍ لا يقلّ عن هدوء حضوره المتفرّد، طاويًا رحلة طويلة قضاها يُنقِّب ويُقلّب تربة التاريخ بحثًا عن بضاعةٍ تُشبه الذهب؛ أي الحقيقة. ومُمضيًا أكثر من نصف عمره في مُطاردة العناوين المثيرة، واقتفاء أخرى مُضلِّلة. ناهيك عن انشغاله بنفض غبار التزييف من على خرائط استكشف فيها الضوء في أشدّ زواياها عتمة.
كتب المؤرخ الفلسطيني الراحل عصام سخنيني كمن يضع إصبعه على زناد سلاحه لحراسة البلاد وتاريخها من الغزاة
صاحب كتاب "عهد إيلياء والشروط العمرية" أوجد لنفسه صنعةً أتقنها شغوفًا بما تمنحهُ لصاحبها من أدواتٍ للحفر والتنقيب والبناء. شيّد عبرها وعلى امتداد حدود فلسطين جُدرانًا حاولت فرملة عجلة التزييف الصهيونية، واضعًا سردياتٍ تاريخية مضادّة لسردياتها، فبدا في كتاباته التي لم تخطئ البوصلة ولو لمرّة واحدة، كمن يضع إصبعه على زناد سلاحه لحراسة البلاد وتاريخها من الغزاة، عسكرًا ومؤرّخين سفلة.
اقرأ/ي أيضًا: ركن الورّاقين: موسوعة رحلات العرب والمسلمين إلى فلسطين (1/2)
انشغالات عصام سخنيني الفلسطينية لم تمنعه من توسعة دائرة نشاطه، باحثًا ومؤرّخًا، إلى الأفق العربية. وإن باهتماماتٍ قليلة مقارنةً بما أعطاه للمسألة الأولى، بحكم الظروف وتراكم المواد الخام، بحثًا وتأريخًا. هكذا، سوف ينخرط في البدايات بمسألة الدولة الفلسطينية، مُعالجًا في إشكالية الدولة في كتابه "فلسطين الدولة: جذور المسألة في التاريخ الفلسطيني". وباحثًا في جذور نشأتها أيام الانتداب البريطاني والسنوات الثلاثة التي أعقبته كذلك. حيث يرى فيها مرحلةً تأسيسية، أرست قواعد المسألة، ووضعت مكوّناتها الأساسية، وشهدت بداية نشوئها. بالإضافة إلى مروره بالصراعات الدولية إبّان الحرب العالمية الأولى، ودورها في رسم الخريطة الإقليمية لفلسطين.
كتابه السابق "فلسطين والدولة" كان العتبة الأولى لوضعه كتابًا آخر قائمًا على الإنسان بالدرجة الأولى، ومعنيًا بأرضه. بالإضافة إلى الإجابة على جُملة أسئلة، منها: كيف تكوّنت فلسطين اسمًا وأرضًا وشعبًا وهوية؟ هكذا، سيذهب سخنيني في كتابه "فلسطين والفلسطينيون" نحو اقتفاء أثر أسلافه بدءًا من زمن الكنعانيين في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وصولًا إلى نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين.
ولأنّ الكتابة عن فلسطين كانت تستدعي مرورًا سريعًا على مدنٍ لا بدّ من الوقوف عندها؛ سيفرد صاحب "العباسيون في سنوات التأسيس" كتابًا حول مدينة طبرية، سالكًا هذه المرّة طريق من برعوا في كتابة سير المدن، تأريخًا ووصفًا، مُتتبّعًا دروب ابن عساكر والخطيب البغدادي وابن العديم وغيرهم واضعًا كتابًا جديدًا تحت عنوان "طبرية: تاريخ موسوعي من إنشائها سنة 20 م، إلى نهاية الانتداب الفلسطيني سنة 1948"، حيث قدّم فيه الكاتب الراحل سجلًّا توثيقيًا شاملًا لتاريخ المدينة على امتداد ما يزيد عن تسعة عشر قرنًا، تبدّلت فيها أحوالها مرّاتٍ عديدة وبأساليب مختلفة، دفعته للاشتغال على الكتاب انطلاقًا من محاولة الوصول إلى مستوى العمل الموسوعي الشامل لمدينةٍ يرى أنّها تستحق جهد الكتابة عنها، لا سيما وأنّ الحديث هنا عن مدينةٍ غنية بالذكريات المقدّسة لأتباع الديانات السماوية.
قدّم المؤرخ الراحل عصام سخنيني سجلًّا توثيقيًا شاملًا لتاريخ مدينة طبريا في كتاب موسوعي عرض فريد، عرض ما يزيد عن 19 قرنًا من حياتها
في سياق الحديث عن الديانات السماوية، لا بدّ من الحديث عن كتاب "مقاتل المسيحيين: نجران 523 م، القدس 414م" الذي أضاء فيه على كبرى المجازر التي ارتكبها اليهود ضدّ المسيحيين في مكانين متباعدين جغرافيًا، أي القدس ونجران اللتين شهدتا إباداتٍ جماعية أغفلتها عمدًا المصادر اليهودية كجزءٍ من الجهد التي تبذله لتحريف ما مضى وفات.
اقرأ/ي أيضًا: المركز العربي يختتم مؤتمر الدراسات التاريخية.. فلسطين عربيًا ومئوية وعد بلفور
يذكر عصام سخنيني أنّ اليهود آثروا تشويه المسيحية كديانة وعقيدة أيضًا، كاشفًا عن مدى كراهية اليهودية للمسيحيين من جهة، وتأسيس اليهود تاريخًا مضادًّا لتاريخ المسيح من جهةٍ أخرى، ما يعني أنّ الكره الديني كان ممأسسًا وممتدًا عبر الأزمنة، يتكئ دائمًا وأبدًا على أسطورة أرض الميعاد التي ارتكبت باسمها مذابح متتالية بحقّ العرب والمسلمين إبّان قيام الكيان الصهيوني وبعده.
اقرأ/ي أيضًا: