على السطح تبدو مقاربة خسارة الفلسطينيين لأرضهم، ومن ثم لنسيجهم الاجتماعي كشعب، من قبل قيادات العمل الوطني الممثلة باللجنة العربية العليا بزعامة المفتي الحاج أمين الحسيني، عبر توظيفها لمصطلح "النكبة" منسجمًا إلى حد كبير مع طبيعة تفكيرها اللاهوتي الذي يتعامل مع المصائب والكوارث البشرية كنوع من القضاء والقدر الإلهي، إلا أنه في العمق عنى شيئًا واحدًا، محاولتها المستميتة في التهرب من تحملها أية مسؤولية عن ذلك الضياع وتلك الخسارة الفادحة، التي حكم قصورها الذاتي في إدارتها لطبيعة الصراع الوجودي مع المشروع الصهيوني. الخسارة بوصفها جرحًا للشعور النرجسي للقومية العربية، لا بوصفها جريمة لتشريد شعب هي ما سوف يستولي على تفكير المفكر القومي قسطنطين زريق في مقاربته لنكبة الفلسطينيين، ذلك أن تفكيره سيظل محكومًا في رؤية فلسطين وشعبها بمنظور الجزء داخل الكل الكبير، الذي لن يدخر جهدا للثأر لكرامته القومية المهدورة يومًا.
لم تهمل السردية الفلسطينية الدور البطولي الذي قام به الفلسطينيون، إلا أنّ تركيزها ظل منصبًا على سردية أو مظلومية اللجوء والتشرد
مع ذلك فإن وعي النكبة الفلسطينية على حقيقتها، في كونها جريمة تطهير عرقي قامت به جماعة قومية ضد جماعة أخرى سيتأخر، وسيكتب له أن يأتي من جانب المؤرخين الجدد الإسرائيليين، الذين نجحوا إلى حد كبير في تفنيد الرواية الرسمية الاسرائيلية لحربها ضد الفلسطينين، عبر إدارجها في خانة حروب الاستقلال والتحرر الوطني، فيما حقيقتها لا تتعدى حقيقة الجريمة المنظمة المحتجبة وراء جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
إذا كانت مفاهيم الخسارة والربح تصلح لمقاربة النكبة الفلسطينية من حيث النتائج، التي تمخض عنها الصراع العربي ـ الصهيوني في مآلاته الأخيرة ، فإن مفاهيم الوجود والعدم هي الأجدى لمقاربة حجم تلك الخسارات الفلسطينية في نهاياتها القصوى. فلقد أنتهى وجود الفلسطينيين في أرضهم التاريخية منذ نهاية الـ 1947 (عام قرار التقسيم) إلى العدم، عدم دولة في مقدمة لعدم شعب، الأمر الذي جعل تحولهم إلى مجموعة من البشر المنفيين مسألة وقت. فلقد حدد ذلك القرار طبيعة النهايات الحزينة التي سينتهي إليها الفلسطينيون، في نفس الوقت الذي حدد فيه النهايات السعيدة لخصومهم الصهاينة، من حيث رفع تجمعاتهم الاستيطانية إلى مستوى الشعب، وبؤرهم كما جزرهم الاستيطانية إلى مصاف الدولة ذات السيادة.
إن كان قد قدر لعام 1947 أن يؤرخ لاختفاء فلسطين كدولة من خارطة الكيانات السياسية المعاصرة، فإن عام الـ 1948 لا يخرج عن كونه زمنًا لرصد تحولات الفلسطينيين من شعب موحد إلى تجمعات بشرية من المنفيين، ذلك أن الأصل في وجود شعب ما هو خضوع جميع أفراده لسلطة قانونية واحدة، الأمر الذي استحال حدوثه في واقع الفلسطينيين المشتتين في مناف متعددة، يخضع كل تجمع فيها إلى قوانين وسلطات الدولة المضيفة.
على الرغم من أن السردية الفلسطينية للنكبة لم تهمل يومًا الدور البطولي الذي قام به الفلسطينيون في تصديهم للمحاولات الصهيونية في الاستيلاء على بلادهم، إلا أنّ تركيزها ظل منصبًا على سردية أو مظلومية اللجوء والتشرد، من حيث كونها التكثيف الأبرز لمحنة الخروج من حالة الكرامة إلى حالة الذل، ومن حالة الاستقرار إلى حالة المنفى حيث المخيم علامة من علامتها الكارثية الكبرى.
ارتبط المخيم بذهن ساكنيه على الرغم من تقديم نفسه كملجأ بالعدم، فالقاطن فيه عدم إنسان، إنه مجرد شخص يصارع من أجل البقاء، حاله في ذلك حال الحيوان في دائرته الوجودية المغلقة، في حين أن الوجود للحق للإنسان يتجاوز حالة الركون الفطري لإشباع غرزتي الجوع والأمان البيولوجيين، وصولًا إلى تحقيق الذات ونيل الاعتراف الاجتماعي به من قبل الآخرين. فالأصل في علاقة الإنسان مع المكان إمتلاكه، أنسنته وجعله امتدادًا لذاته، وتأثيثه روحيًا على نحو فريد وخاص. فلقد ولدت الوظيفة المزدوجه للمخيم في كونه ملجأ من جهة، واستحالة تملكه من جهة أخرى، سواء عبر العمل أو عبر تقرير مصير أبنائه، إلى خلق حالة من الاغتراب عنه، تمثلت في استحالة الانتماء إليه نفسيًا، الأمر الذي تمخض عنه قلق روحي عارم ما كان بالإمكان الخروج منه إلا عبر الانخراط في الثورة ضد الجهة التي كانت السبب في خلقه، دولة الاحتلال الإسرائيلي.
تكمن كلمة السر في تحولات المخيم من كونه مكانًا للعدم الكلي إلى كونه مكانًا للوجود المطلق. في الثورة الفلسطينية المعاصرة التي منحت كل لاجئ أملًا بالخلاص من وضعية الاغتراب التي عاشها في فضاء المخيم، وفي تحويل المخيم من محطة لانتظارالعودة إلى محطة لخلقها بقوة الأنفس والكلمات والرؤى. تلك العودة التي لم تكن تهدف إلى أقل من الحصول على كياني سياسي اسمه الدولة، التي عنت لهم الشعور بالحرية والرغبة المطلقة في تقرير المصير. الأمر الذي يفسر انجذاب الفلسطينيين إلى الدولة حتى في صيغتها غير الناجزة، سواء عبر معايشتها وفق وضعية "الدولة داخل الدولة" أثناء فترة العمل الفدائي في الأردن خلال الفترة الواقعة بين الـ 1967 - 1971، أو وضعية "الدولة في المنفى" إبان فترة العمل الفدائي في لبنان حتى العام 1982.
تبدو حصيلة النضال الفلسطيني خلال الخمسين سنة الماضية متواضعة جدًا، إذا ما أخذنا بالاعتبار الفارق بين حجم التوقعات والآمال الوطنية
تبدو حصيلة النضال الفلسطيني خلال الخمسين سنة الماضية متواضعة جدًا، إذا ما أخذنا بالاعتبار الفارق بين حجم التوقعات والآمال الوطنية (الدولة الفلسطينية المستقلة) والمتحقق في الواقع العياني (الحكم الذاتي للسكان)، فلا تحول الفلسطينيون تحت حكم سلطة الحكم الذاتي المحدود إلى مواطنين حقيقيين حيث لا دولة مستقله لهم، ولا منح اللاجئون الفلسطينيون في مخيمات الشتات حق الحصول على جنسية البلدان المضيفة لهم (سوريا ولبنان)، الأمر الذي جعل إقامتهم في مخيماتهم أقرب ما يكون إلى التيه أو الضياع الوجودي لأناس عالقين في مكان لا يستطيعون مغادرته، فلا هم بقادرين بالعودة إلى دولتهم الفلسطينية التي لم تقم، ولا هم بقادرين على الاندماج السياسي كمواطنين في الدول التي يقيمون فيها.
لقد نجحت سياسة التطهير العرقي في فلسطين عام 1948، في قدرتها على سلب الفلسطينيين لحقين أصيلين؛ حقهم في إنشاء كيان سياسي خاص بهم (دولة)، كما حقهم في الحفاظ على نسيجهم الاجتماعي كشعب. إلا أن نفس تلك السياسة العدوانية القائمة على الفصل العنصري (الأبارتهايد)عادت لتصهر نضالاتهم على طول وعرض الوطن الفلسطيني في بوتقة واحدة، الأمر الذي يبعث الأمل في النفس في أن 73 عاما من النفي والاقتلاع غير قادرة على إبقاء الفلسطينين في التيه الذي دفعوا إليه.