من البديهي القول إنْ ليس كلٌّ عملٍ ينطلق من النوايا الصائبة والطيّبة هو صحيح. قد يرتكب البعض أخطاء جسمية وهم يظنون أنّهم يعملون الخير. حوادث عديدة تقع حول العالم، تتعدّد فيها انتهاكات حقوق الإنسان وكرامته، من خطابات العنصرية والكراهية إلى حالات العنف الأسري وجرائم الاغتصاب والتحرش وغيرها.
ومع تصاعد تأثير الشبكات الرقمية وتوظيفها من قبل المؤسسات الإعلامية أصبحت غالبية وسائل الإعلام التقليدية لها رديفًا في الساحة الرقمية، فضلًا عن توظيف هذه المنصّات من قبل ناشطي حقوق الإنسان والمنظمات ذات الصلة، وصحافيين ومستخدمين متفاعلين. باتت هذه المنصّات مصدرًا أساسيًا للأخبار من جهة ومنبرًا مؤثّرًا في القضايا الإنسانية.
ولعلّ من أكثر الأسئلة التي تدور في ذهن الناشر أو صانع المحتوى حول قضية ما:" كيف لي أن أصنع من الصورة مادة تسترعي انتباه الجمهور؟" هذا الهدف قد يجعل الناشر ينسى محاذير مهنية وقانونية أثناء التقاط الصورة وإنتاج مواد الفيديو، بل قد يقوده الحماس إلى انتهاك المسؤولية الاجتماعية التي تبرز في القضايا الحسّاسة لا سيما عند تغطية قضايا إنسانية.
تتصاعد وتيرة الانتهاكات في عالمنا العربي، نتيجة ضعف الوعي حول الضوابط وغياب التثقيف الاجتماعي واللا مسؤولية لدى بعض المؤسسات الإعلامية المُخالفة لأخلاقيات المهنة
هنا تكمن المشكلة والانتهاك الذي قد يواجهه الناشر والمتصل بخصوصية الشخص المُراد مناصرته أو الدفاع عنه، وذلك عندما يتم نشر صورة أو محتوى فيديو دون موافقته بغرض استقطاب قضيته، ونشر معاناته قدر الإمكان لتحقيق الهدف المرجو من خلال رأي عام وضغط مجتمعي.
خلال الأسبوع الماضي انتشر على منصّة إكس (تويتر سابقًا) فيديو لعاملة من الجنسية الأثيوبية (بحسب ما ورد في المحتوى) وهي تمشي على الشارع العام في إحدى المناطق اللبنانية عارية. نقل المتفاعلون الرقميون أنّها أقدمت على هذا العمل للاحتجاج على ما تتعرّض له من تعنيف منزلي حيث تعمل. يظهر الفيديو بأنّه قد تم التقاطه من قبل أحد الأشخاص عن بعد دون علم الفتاة التي تمشي عارية. تداول الناشطون الفيديو وحتّى بعض المواقع الالكترونية الإخبارية مطالبين الدولة اللبنانية والمنظمات ذات الصلة تحصيل حقوق العاملة ونقل معاناتها.
من هنا نعود إلى حيث بدأنا في أول المقال، أنّ ليس كل عملٍ ينطلق من النوايا الصائبة والطيّبة هو صحيح. من يجيز التقاط هذا الفيديو؟ ومن يجيز نشره وهي عارية حتّى لو أنها مشت في الشارع، ولكن لا يعني بجواز تصويرها ونشر ما تقوم به؟ قد نفهم أن الغاية هي مناصرتها ولكن الغاية لا تُبرّر الوسيلة، الأمر ليس مجرد نقد بل يتعدّى ذلك إذ يُشكّل انتهاكًا فاضحًا لحقوق الإنسان وتحديدًا مبدأ الخصوصية.
يحفظ القانون الحق في الخصوصية للشخص، كما نصت المعاهدات الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان، كالمادة رقم (17) المنصوص عليها في "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمادة 21 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان 2004، التي نصت على أنه: "لا يجوز تعريض أي شخص على نحو تعسفي أو غير قانوني للتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته أو التشهير بمس شرفه أو سمعته".
وفي السياق وخلال حديثها مع ألترا صوت تقول الصحفية والناشطة سامية عايش: "مثل هذه الصور الهدف من استخدامها في المواد الصحفية هو إثارة عاطفة المشاهد، والتأثير عليه بالصدمة، لأجل جذب المشاهدات والزيارات، وهو ما يتنافى مع أخلاقيات المهنة. تكرار استهلاك مثل هذه الصور والفيديوهات يجعل المشاهد معتادا على هذا النوع من الصدمات وبالتالي تقل درجة التعاطف معها بمرور الوقت. الهدف الأول للصحفي يجب أن يكون دائما الحفاظ على كرامة الضحايا الذين يركز عليهم في قصته. نشر الصور كما هي من دون إخفاء وجوه أو هويات يتنافى مع حفظ كرامة الأشخاص في الصورة. قد يكون الحل البديل هو وصف محتوى هذه الصور بدلا من نشرها كما هي، لأن العامل البصري صدمته أكبر. كما أنه من المهم أيضا إضافة تحذير عند نشر مثل هذه الصور".
من جانب آخر، تتصاعد وتيرة الانتهاكات في عالمنا العربي، نتيجة ضعف الوعي حول هذه الضوابط وغياب التثقيف الاجتماعي واللا مسؤولية لدى بعض المؤسسات الإعلامية المُخالفة لأخلاقيات المهنة من جهة. أما من جهة أخرى، العوائد المالية التي تدفعها الشركات التكنولوجية مقابل ما يحصده الناشر من مشاهدات ما يحفّز النشر دون أي مراعاة للضوابط والمبادئ الإنسانية، إذ يصبح الدولار هو الحاكم والطاغي على المشهد وهذا ما أكّدته سامية عايش بقولها: "للأسف الشديد، الوعي بالجانب الأخلاقي ينحدر يومًا بعد يوم. في الكثير من المؤسسات الإعلامية أصبح هناك تداخل كبير بين الجانب الصحفي والجانب الربحي. أصبح الكثير من الصحفيين اللاهثين خلف الزيارات والمشاهدات مستعدين للتضحية بالأخلاقيات مقابل تحقيق ذلك، فرفع الزيارات والمشاهدات قد يسهم في زيادة عائدات المؤسسة (أو هذا هو الاعتقاد السائد). خوفي أيضًا على طلاب وطالبات الجامعات والخريجين الجدد الذين يدخلون مثل هذه الأجواء التي لا تعبأ بالأخلاقيات أو المهنية في العمل. نركز اليوم بشكل كبير على الأدوات والتقنيات والذكاء الاصطناعي وغيرها، وننسى التركيز على الأخلاقيات، وباعتقادي يجب أن يكون الجانب الأخلاقي مرتبطًا بكل هذه التدريبات، وأن يكون جزءًا منها".
وفي نفس السياق المُتصل بانتهاك الخصوصية والإساءة، ولكن هذه المرّة يكمن الانتهاك على يد الذكاء الاصطناعي، أثارت قضيةٌ الرأي العام العالمي إذ أصيبت بلدة هادئة في جنوب إسبانيا بالصدمة بعد أن تبين أن الصور العارية التي أنشأها الذكاء الاصطناعي لفتيات محليات صغيرات تم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي دون علمهن. تم إنشاء الصور باستخدام صور الفتيات المستهدفات بملابسهن الكاملة، والعديد منها مأخوذة من حساباتهن الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، ثم تمت معالجتها من خلال تطبيق يقوم بإنشاء صورة متخيلة للشخص بدون ملابس.
تجاوز الواقع الرقمي قضية الإساءة البشرية وامتد إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي. الأمر الذي يضعنا أمام معضلة حقوقية خطرة، ويضع كبرى الشركات التكنولوجية أمام مسؤولياتها لوضع ضابطة سريعة لهذه الظاهرة الخطيرة
"تجاوزت القضية الإساءة البشرية وامتدت إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي. الأمر الذي يضعنا أمام معضلة حقوقية خطرة، ويضع كبرى الشركات التكنولوجية أمام مسؤولياتها لوضع ضابطة سريعة لهذه الظاهرة الخطيرة، التي قد توظّف في عمليات الابتزاز الرقمي والمخاوف من الاستغلال في عمليات الاتجار بالبشر إلى جانب انتهاكات الخصوصية. يتوجّب تحديد أطر قانونية في السياق فضلًا عن عمليات التوعية والتثقيف المجتمعي، كما ينذرنا بالتفكير غير مرّة قبل نشر صور أطفالنا على المساحات الرقمية، والتذكير دائمًا بضرورة الإبلاغ عن أي عملية نشر مشابهة لمراكز الدعم الخاصة بالتطبيقات والمرجعيات القانونية المحلية والدولية"، بحسب ما ذكرته الإعلامية والناشطة الحقوقية فرح فواز لألترا صوت.
تُعتبر هذه القضية من تحدّيات عالمنا العربي، خصوصًا في ظل الأحداث الطبيعية وتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي في عملية نقل الأخبار والمناشدات الإنسانية.
عودًا على ذي بدء؛ يُشكّل انتهاك خصوصية الإنسان من خلال نشر صوره حتّى لو بدواعي إنسانية، مخاطر جمّة ومنها ما حدث في المغرب مؤخرًا. إذ رصدت اللجنة الوطنية لتنسيق إجراءات مكافحة الاتجار بالبشر والوقاية منه مجموعة من المنشورات المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي في سياق حملات ومبادرات تضامنية مع ضحايا زلزال الحوز، فيها مضامين مسيئة خاصة بفئة الأطفال والنساء الضحايا. ومن جانب آخر يقف العالم في حيرة لمكافحة مخاطر الذكاء الاصطناعي التي امتدت إلى هذا المستوى المُسيء لكرامة الإنسان وما ينتج عنها.