ليست أعمال برونو شولتز (1892 - 1942) الأدبية والفنيّة وحدها المسؤولة عن أسطرته، وإنّما – بالإضافة إلى مشقّات الحياة ومتاعبها ومفاجأتها أيضًا – ظروف وفاته المُفاجئة والمأساوية خلال الحرب العالمية الثانية. الكاتب البولنديّ اليهوديّ الذي أدرك لحظة دخول القوّات النازية مدينة دروغوبيتش، مسقط رأسه، أنّ حياته في هذا الواقع الجديد الذي أفرزه الاحتلال باتت أقرب إلى "قصّة موت معلن"؛ لم يلق حتفه على جبهات القتال أو في معسكرات الاعتقال النازيّة، وإنّما برصاصتين ثقبتا رأسه بعد أن أطلقهما باتّجاهه شرطيّ ألمانيّ انتقامًا من شرطيّ آخر كان قد تكفّل بحماية شولتز مُقابل رسم جدارية لغرفة طفله فقط.
راهن شولتز في بناء قصصه ونصوصه النثرية على الترحال في أعماق "اللّاوعي" الذي ينطوي على كلّ ما هو خفيّ
راهن شولتز في بناء قصصه ونصوصه النثرية على الترحال في أعماق "اللّاوعي" الذي ينطوي على كلّ ما هو خفيّ: أحلام أساطير خرافاتة ذكريات وغيرها من الأشياء التي يرى أنّ الزمن يطويها في حركته المتسارعة، الأمر الذي يجعل من الكتابة بالنسبة إليه، ووفقًا لهذه المعطيات أيضًا، عملية تأمّل/ تخيّل لكلّ ما هو خفيّ، تتبعها عملية إعادة خلق وتشكيل في سياقات أدبية مُختلفة.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "نوعان من البشر".. الغرب هو التاريخ والآخرون هم الجغرافيا
هذا بالضبط ما سيكون القارئ العربيّ على موعدٍ معه في كتاب "شارع التماسيح وقصص أخرى" الصادر حديثًا عن "دار قناديل" بترجمة محمد صكيان سعدون، بالإضافة إلى تلك النبرة الشعريّة التهكّميّة التي بناها برونو شولتز من خلال خلطة سرديّة سحريّة نوعًا ما، قائمة على إزالة الحدود التي تفصل بين الإنسان وكلّ ما يُحيط به من حيوانات وجمادات تتقمّص أدوراه أو يتقمّص أدوارها في عملية تحوّل تُعيد القارئ على عجلٍ إلى التحوّل الذي قدّمه الكاتب التشيكيّ فرانز كافكا.
الكاتب البولنديّ الذي قال إيتالو كالفينو في استقباله لنصوصه: "من اليوم يُضيف الأدب الأوروبيّ في القرن العشرين اسمًا جديدًا إلى قائمة أساتذته"، لم تتمكّن الأسطرة التي حظي بها من وضعه في المتن وجعله مُتناولًا دائمًا لاعتبارات مُختلفة، منها نتاجه الأدبيّ الذي لا يتعدّى مجموعتين قصصيتين نُشرتا مئات المرّات في مُحاولة لحفظ إرثه من الزوال وإبعاده قدر الإمكان عن الأمكنة التي سيصبحُ فيها منسيًّا تمامًا ومجهولًا بالنسبة إلى فئات واسعة حتّى داخل حدود بلاده.
يتحدّث برونو شولتز في قصّته "شارع التماسيح" التي عنونت المجموعة بأكملها عن شارع مليء بالقتامة والقذارة، يفخر سّكان المدينة من حوله بالفساد الذي ينخره والرذائل المتفشيّة فيه إلى الحدّ الذي يجعل من كلّ امرأة قاطنة في محطيه داعرة بالضرورة، وكلّ فتاة تتجوّل فيه صاحبة مستقبل منحلّ أيضًا، ممّا جعل الشارع ومحيطه مكانًا تحكمهُ رائحة الخطيئة والفجور، ويعيش سكّانه أمالًا اكتشفوا فيما بعد أنّها مجموعة مغالطات سعوا من خلالها إلى الانصراف عمّا يحيط بهم من بؤسٍ وخراب وفساد أحال البشر إلى مادّة رخيصة.
اقرأ/ي أيضًا: