أنهت الأردن مشاركتها في كأس آسيا 2023 بطريقة لم تخطر على بال أحد، الأردن لم تخرج من مرحلة المجموعات كما توقّع الكثيرون، ولم تودّع المسابقة من الدور ثمن النهائي كما توقّع من هم أكثر من السابقين، وأيضًا لم تصل إلى ربع النهائي وتودّع المسابقة، وفق حدود تاريخية سلّم بها أكثر الكثيرين، كذلك لم تكتف بالوصول إلى نصف النهائي، مثلما نادى أشدّ المتفائلين قبل البطولة، بل فعلتها وكانت واحدًا من فريقين، لعبا سبع مباريات بالبطولة، وهو أمر لم يتنبأ به سوى منجّم أو مجنون.
الأردن بلغت نهائي كأس آسيا، وأنهت البطولة في المركز الثاني خلف المنتخب القطري، والذي نال البطولة للنسخة الثانية تواليًا، بعد فوزها بالمباراة النهائية بثلاثة أهداف لواحد.
كسرت الأردن أرقامًا قياسية متعلّقة بمشاركاتها السابقة، فكان أفضل إنجاز لها الوصول إلى الدور ربع النهائي في مناسبتين، عبر جيلين ذهبيين بقيادة المصري الراحل محمود الجوهري، والعراقي المتألق عدنان حمد.
لكن تشكيلة الأردن الحالية كانت أبعد ما تكون عن تشكيلتي المدربين السابقين من ناحية ازدحام النجوم بين أساسيين وبدلاء، إلا أن الفريق قلب كل التوقّعات، ووصل إلى نهائي كأس آسيا، وأثبت أنه ثاني أقوى فريق في أكبر قارّة تعدادًا سكّانيًا على كوكب الأرض.
عرّاب هذا الإنجاز هو المدرّب المغربي الحسين عموتة، والذي تمثّل تجربة الأردن في كأس آسيا 2023 اختصارًا لبعض من شخصيّته، ويعكس التزام لاعبي المنتخب الأردني بالتعليمات جزءًا من تربيته، ويقدّم الفريق إجمالًا أداءً قتاليًا وبطوليًا يلخّص مسيرته الكروية والتدريبية، وربّما يفصح عن بعض التفاصيل من قصّة حياته، فمن هو الحسين عموتة؟
من هو الحسين عموتة؟
يمرّ الإنسان بمراحل عديدة في حياته، ويتعرّض لظروف سلبية كانت أم إيجابية، ولكنها بالتأكيد ستصقل شخصيّته، وتكوّن خياراته في الحياة، والتي ستنقسم دائمًا إلى حياة شخصية وأخرى مهنيّة، سنتحدّث فيما يلي عن ثلاثة جوانب، اثنان منها يتعلقان بمسيرته المهنية "لاعب ومدرّب"، والأخرى نسلّط فيها الضوء على حياته الشخصية.
الحسين عموتة وحياته الشخصية
في يوم خريفي بأواخر ستينيات القرن الماضي، وتحديدًا في الرابع والعشرين من تشرين الأوّل/أكتوبر عام 1969، رُزق رجل مغربي بطفله السادس، حدث ذلك في مدينة الخميسات، على بعد قرابة 80 كيلو مترًا شرق العاصمة المغربية "الرباط".
هذا الرجل كان متواضع الحال، ينتمي لعائلة بسيطة ومكافحة، حالها حال أكثر الأُسر هناك، لكنّه استبشر خيرًا بقدوم مولوده الجديد، والذي حينما رأى الدنيا لأوّل مرّة كان خجولًا وهادئًا، لذلك استحقّ أن يحمل اسم جدّه، وهو فخر لأي طفل سيبقى معه طيلة حياته، فقد اختاره والده مين بين جميع إخوته، وعليه أن يكون أهلًا لشرف حمل اسم "الحسين عموتة".
قصص الكفاح والقساوة عند أكثر الناس تبدأ في مراحل يكون بها قد اشتدّ عودهم، لكنّ الأمر مختلف عند الحسين عموتة، فقد عاش يتيم الأم، وكابد والده في تربيته وإخوته، بيتٌ بسيطٌ في مدينة صغيرة، وأسرة متواضعة فيها طفلٌ لم يذق حنان الأم كما ينبغي أن يحظى به أي نظير له، كلّ ذلك قد يساهم بطريقة أو بأخرى في خلل تربوي أو اجتماعي، لكنّ هذه الظروف لم تفعل ذلك مع الحسين عموتة.
بل كانت هذه الظروف سببًا في تكوين شخصيته المكافحة، هو شخص متواضع، قليل الكلام، بارًا بوالده، والذي لا ينفكّ يتكلّم عن رضاه عن ابنه، وفخره بما صنعه في مسيرته.
هذا الطفل تلقّى تعليمه في المدارس العامّة بمدينته الخميسات، وبعدما كبر قليلًا اتجه شمالًا وتحديدًا نحو مدينة القنيطرة، وهناك اشتدّ عوده أكثر فأكثر، حيث التحق بالثانوية العسكرية الملكية الأولى، وهناك حسب موقع الجزيرة، احتك بخلفيات اجتماعية مختلفة من أبناء عسكريين وما إلى ذلك، وكان تعليمه في تلك الفترة وفق نظام داخلي، خضع فيه لانضباط صارم، مع يوم واحد من الراحة فقط.
بعدما أنهى الدراسة الثانوية، وجد أن بنيته الجسدية لا تصلح لأن يصبح عسكريًا، فقرّر الحسين عموتة بعد دعم من والده تغيير مساره تمامًا، فالتحق بمدرسة الفتح الرياضي بالرباط، كي يوازي بين التحصيل العلمي والتكوين الرياضي.
مسيرة الحسين عموتة العلمية كانت مميزة، فقد حاز على درجة الماجستير في تخصص التدريب عام 1994، كما اجتاز بامتياز دورة تدريبية نظمتها اللجنة الأولمبية الدولية، وكان أوّل مغربي ينال المركز الأوّل على دفعته، وهو الآن في طريقه لنيل شهادة الدكتوراة، وأطروحته تتمحور حول "العلاقة بين الأداء الرياضي للاعبين والاستعدادات النفسية والاجتماعية والعقلية".
مسيرة الحسين عموتة الكروية
في عام 1976 توّجت المغرب بكأس أمم أفريقيا للمرّة الأولى والوحيدة في تاريخها، لكم أن تتخيّلوا مئات آلاف الأطفال في المغرب، والذين حلموا أن يصبحوا لاعبي كرة، أسوة بنجوم المنتخب المغربي في ذاك الوقت، فالطفل ينظر إلى لاعب الكرة على أنّه يلعب فقط، ويؤدي حركات جميلة، ويركض كثيرًا، ويمرح كثيرًا أيضًا، ومن ثمّ يصبح مشهورًا، ويحبّه الجميع، ويفخر به أهله.
لن تجد حافزًا أكبر من ذلك لأيّ طفل، كي يحبّ كرة القدم، وفي ذاك الوقت كان عمر الحسين عموتة 7 سنوات، لقد نشأ وعيه في هذا الكوكب ومنتخب بلاده سيّدًا على أفريقيا، وصار يحلم مع الحالمين، ويركض مع الراكضين في الشوارع والأزقة، ربّما بأقدام عارية أو أحذية ممزقة، لكنّه كان يلعب بشغف، ويود لو يصبح لاعب كرة مثل جميع أقرانه.
اختار الحسين عموتة أن يكمل شغفه بكرة القدم، ويواصل تميّزه فيه من الشوارع إلى الملاعب، وأصرّ على ذلك، وكحالة أكثر الأهالي، يفضّلون أن يكمل ولدهم تحصيله العلمي، فما بالك لو كان هذا الولد هو الحسين عموتة المجتهد في دراسته والمتميّز بها.
لكنّ الإصرار والإيمان، جعلا الحسين عموتة يقنع والده بلعب كرة القدم، فخاض أولى التجارب الكروية الحقيقية في مسيرته عام 1988، وقتها كان عمره 19 عامًا، وبالطبع، كان يرتدي قميص نادي مدينته "الاتحاد الزموري للخميسات"، وبعد سنتين من المستويات الجيّدة التي قدمها لاعب خطّ الوسط الحسين عموته، انتقل إلى العاصمة المغربية، وتحديدًا إلى نادي الفتح الرباطي، واستمرّت هذه الرحلة ستّ سنوات، وكانت الأفضل له في مسيرته المحلّية، حيث قاد فريقه لنيل لقب الدوري المغربي مرتين عامي 1993 و1994، كما توّج هدّافًا للمسابقة عام 1996.
بعد نجاح اللاعب الحسين عموتة في مسيرته المحلية، بدأ تجربته الاحترافية في الدوري السعودي، وتحديدًا نادي الرياض، ومن بعد ذلك اتجه صوب السدّ القطري، ليكتب صفحات جديدة من الأمجاد الكروية، نال كل ما هو ممكن من البطولات المحلّية، على الصعيد الجماعي والفردي، حيث توّج هدّافًا للدوري القطري، إضافة إلى فوزه بالدوري وكأس الأمير وكأس ولي العهد.
مسيرة العموتة الرياضية خُتمت عام 2003، سبقها تجارب احترافية في الشارقة الإماراتي وعودة إلى ناديه الذي بدأ فيه مسيرته "الاتحاد الزموري للخميسات".
وعلى الصعيد الدولي، شارك الحسين عموتة مع المغرب لفترة بسيطة، حيث ارتدى قميص أسود الأطلس في خمس مباريات فقط، سجّل فيها هدفًا واحدًا، وربما لم ينجح في حجز مكان أساسي له، نظرًا لاكتظاظ النجوم في المنتخب المغربي في تسعينيات القرن الماضي، خصوصًا ذاك الفريق الذي شارك بكأس العالم 1998، وسرت أقاويل حول وداعه البطولة بسبب مؤامرة برازيلية-نرويجية.
مسيرة الحسين عموتة التدريبية
مثلما بدأ مسيرته كلاعب، استفتح الحسين عموتة مسيرته التدريبية مع الاتحاد الزموري للخميسات، فكانت البداية مع فريق الناشئين عام 2003، رويدًا رويدًا ويصبح مدرّبًا للفريق الكروي الأوّل عام 2007، ليسطّر إنجازًا تاريخيًا للفريق، فقد نال معه وصافة الدوري المغربي، ما أهّله للمشاركة في دوري أبطال أفريقيا للمرّة الأولى في التاريخ.
النجاح استمرّ بالنسبة للمدرّب الحسين عموتة، وأيضًا كرر مسيرته الكروية بنظيرتها التدريبية، فانتقل من "الخميسات" إلى الفتح الرباطي، فنال كأس العرش المغربي، ومنح ناديه لقبًا تاريخيًا، بعدما نال كأس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم.
التألّق التدريبي للحسين عموتة تواصل، فانتقل إلى السد القطري، وحقق معه كمدرّب كلّ الألقاب المحلّية "دوري قطري، كأس أمير قطر، كأس السوبر القطري"، ليجرّب بعده فريقًا آخر، كان هو أوّل ناد يدرّبه دون أن يلعب في صفوفه في السابق.
ونحكي عن نادي الوداد البيضاوي، والذي قاده الحسين لتحقيق الدوري المغربي، ودوري أبطال أفريقيا مسجّلًا إنجازًا مغربيًا جديدًا، لأن الحسين عموتة هو المغربي الوحيد الذي نال دوري أبطال أفريقيا كمدرّب.
هل تعلمون ماذا حدث في عام 1996؟
كما تكلّمنا أعلاه، توّج الحسين عموتة هدّافًا للدوري المغربي عام 1996، وبعد ذلك بفترة قصيرة جدًا، وبعيدًا عن المغرب، كانت الأنظار تتجه إلى ملعب ويمبلي في لندن، حيث يستضيف نهائي النسخة العاشرة من كأس أمم أوروبا "يورو 1996"، بين منتخبي ألمانيا والتشيك. الألمان فازوا بما يعرف بقاعدة الهدف الذهبي، بثنائية شهيرة للبديل أوليفر بيرهوف، بعد ذلك صعد النجم الكروي إلى منصّة التتويج، ورفع الكأس الغالية أمام أنظار الملكة إليزابيث.
في ذاك الوقت كان الحسين عموتة بالتأكيد أحد المتابعين لتلك اللقطة، لأن هذه المباراة كانت الأهم بالموسم، وينظر إلى يورغن كلينسمان كأسطورة كروية يصعب تكرارها، لكنّه لم يخطر بباله أنه سينازله وجهًا لوجه بعد ذلك بـ28 عامًا، وسينتصر عليه كما تعلمون جميعًا.
الحكاية الجميلة للحسين عموتة مع النشامى بدأت في صيف عام 2023، حينما تسلّم الدفّة التدريبية للمنتخب الأردني، لكنّ البداية لم تكن جميلة أيضًا، فقد مُني المنتخب الأردني بخسارات قاسية، فتلقّت شباكه 12 هدفًا في مباراتين فقط أمام النرويج واليابان، وكان الأداء متواضعًا في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026.
إلا أن النشامى أظهروا وجهًا مختلفًا في كأس آسيا 2023، فتفوّقوا على ماليزيا، واقتنصت كوريا التعادل بالدقائق الأخيرة، في أولى المواجهات بين كلينسمان والحسين عموتة، ثمّ خسر الفريق أمام البحرين، والتي أشرك فيها تشكيلة من البدلاء بعد ضمان العبور إلى دور الستّة عشر.
المهمّة كانت في دور الستّة عشر العبور إلى ربع النهائي، لكنّ المنافس كان المنتخب العراقي، هذا الخصم المرعب الذي هزم اليابان، إلا أن كتيبة الحسين عموتة فعلت المستحيل في الوقت بديل الضائع، وقلبت تأخّرها إلى فوز مثير.
التحدّي الآخر كان في ربع النهائي أمام طاجكستان، وهو منافس صعب لاقاه الفريق في تصفيات كأس العالم، والأهم هو الوصول لمربّع الكبار والتخلّص من عقدة ربع النهائي التي لازمت النشامى مع مدرّبين أسطوريين هما محمود الجوهري وعدنان حمد، إلا أن النشامى فعلوها، وأصبح الحسين عموتة رجل المرحلة، حينما قادهم لأول مرة في تاريخهم إلى نصف النهائي.
حقق المنتخب الأردني هدفه من البطولة، وكل ما يأتي من الأدوار القادمة سيعتبر بمثابة "فائض سعادة" للشارع الأردني، ليتواجه الحسين عموتة مرّة أخرى مع كلينسمان في نصف نهائي كأس آسيا، ويهزمه تكتيكيًا وفنّيًا، ويطيح النشامى بالكوريين المدججين بالنجوم، ليأتي الرجل الذي حمل كأس أوروبا عام 1996 أمام الملكة إليزابيث، ويصافح الحسين عموتة بكل فخر.
الأردن حققت ما يعتبره البعض مستحيلًا في كأس آسيا 2023، ورغم خسارتها المباراة النهائية أمام قطر 3-1، إلا أن الوصول للنهائي مثّل عرسًا بحد ذاته بالنسبة للأردنيين والعديد من الجماهير العربية.
لقد قابلت العديد من الصحفيين الكوريين في خضمّ منافسات كأس آسيا 2023، وسألتهم عن معرفة الشارع الكوري بلاعبي الأردن، فأجابني أحدهم بلكنة "إنجليزية-شرق آسيوية" بأسماء عربيّة، فقال: "موسى التأمري" وقال أيضًا "يزن النوأيمات"، والأهم من كلّ ذلك أنّه ذكر المعلّم "أمموتة".