بعد اغتيال أسامة بن لادن بقليل، صوَّر صحافي أمريكي بنيويورك تايمز غرفة نومه ونشرها على فيسبوك. كانت صورة أسامة تحتل مساحة واسعة من الجدار، فوق رأسه، تنعكس على مرآة هي أول ما يراه بمجرد الاستيقاظ من النوم، قال إنه "في أشدّ حالاته النفسية سوءًا لوفاة مجاهد عملاق لن تنتج ورش المجاهدين مثله".
يقع محررو الإسلام السياسي تحت الضغط النفسي بسبب المصادر التي، في الغالب، تكون جماعات إرهابية، تستعملهم في الترويج لها، ونشر قصص خبرية مرعبة
الصحفي، الذي لا أذكر اسمه، كان محررًا بقسم الإسلام السياسي، يغطي أخبار القاعدة، يتتبع خط سير "المجاهدين" والإرهابيين، ويتواصل مع مصادر ترشد عن أسامة ورجاله، وقد ساهم، بقصد أو دون قصد، في قتله. كان يفتش عن مكانه في كهوف وجبال "تورا بورا"، ويعرف أخبار حياته الخاصة من رسائل وإيميلات مقرَّبين منه، وينشرها يوميًا، ولا يقبل فصالًا في أن بن لادن الأخطر والأكثر دموية وإجرامًا في ذاكرة أمريكا، والتخلص منه "مسألة أمن قومي".
سألت أستاذ طب نفسي عن تحليل شخصية محرر "نيويورك تايمز"، فقال إنها حالة توحّد مع المصادر ربما يصل إليها الصحفي إذا كان يعرف أخبار وأسرار وغزوات شخص أسطوري بحجم بن لادن، هو ليس حزينًا لوفاته، إنما في حالة صدمة من خسارة شخص ارتبط به نفسيًا من كثرة متابعته ويمكن أن يتكرر ذلك الآن مع أبو بكر البغدادي أو غيره.
اقرأ/ي أيضًا: الإرهاب وأخطاء الإعلام اللبناني التي لا تحتمل
هنا، يقع محررو الإسلام السياسي تحت الضغط النفسي بسبب المصادر، التي، في الغالب، تكون جماعات إرهابية، تستعملهم في الترويج لها، ونشر قصص خبرية مرعبة عن عملياتها، تضخّم حالة "الرعب العام" من "داعش" وأخواتها، وتدخل في باب الدعاية للتنظيم لا الصحافة.
يقع الصحفي تحت سطوة المصدر لسبب من اثنين، الأول أنه كان واحدًا منهم، كان إخوانيًا أو سلفيًا أو من إحدى "الجماعات الإسلامية"، والثاني أنه اندمج معهم لدرجة تصديقهم بشكل مطلق حتى لو كان يعمل في صحيفة عدوة، فالسياسة التحريرية للجرائد هي التي تعاديهم، وليس الصحفي نفسه!
في مصر، بعد سقوط الإخوان، وخروج السلفيين من دائرة السلطة، قالوا إن أقسام الإسلام السياسي انتهت، فلا جماعات، ولا خلط دين بالسياسة الآن، الأمور منتهية، فليرجع أهل الدين إلى المساجد، ويسأل عنهم محررو المؤسسات الدينية، الأزهر، والأوقاف، والدعاة، ويتفرَّغ محررو الإسلام السياسي لتغطية الأحزاب والبرلمان.
وبالفعل، استسلمت بعض الجرائد مؤخرًا، وألغت أقسام الإسلام السياسي، واكتفت بالمترجمين، ومحرري أقسام الخارجي لتغطية أخبار الإرهاب من مواقع ووكالات أجنبية في قلب الحدث، أو تملك مصادر معلومات هناك، في سوريا والعراق ولبنان وسيناء.
قبل أن تتوغّل "داعش" لتضرب العالم كله، كانت شبحًا تسمع عنه ولا تراه، يرهبك بحكايات عابرة للقارات عن فتوحاته، وقسوته، ودمويته، وقدراته غير العادية على إذلال الدول والدكتاتوريات والأسود، واصطياد أهداف تحيط نفسها بحراسات ودبابات ومدرعات وجند يرفعون السلاح في وجه من يقترب، فالذي يحاول أن يمس طرف بلدة دخلوها يحترق.. والصحف المصرية أو العربية تصنع "حالة الرعب" وتتولى مسؤولية نشرها.
اقرأ/ي أيضًا: الإعلام التونسي ونظرية "المؤامرة" العربية
أقسام الإسلام السياسي بالصحف كانت تنقل أخبار التنظيم الإرهابي من صحيفته الرسمية، وتقدم له خدمة إعلامية وإعلانًا غير مدفوع الأجر دون أن تقصد
هل نقترب الآن من الحالة أكثر؟
كان ذلك قبل عامين تقريبًا، كانت صحيفة يومية على وشك الصدور، قلت لرئيس التحرير: "هل ممكن أن يصدر عدد كامل (24 صفحة) دون كلمة داعش؟".
وقتها، كان محررو الإسلام السياسي يتسابقون على نسج وتأليف حكايات مرعبة عن عمليات التنظيم والقرى التي أهلكها، والعواصم التي دخلها ولن يخرج منها أبدًا، والبنات التي اشتراها وجنّدها من أوروبا وفق مصادر خاصة رفضت ذكر اسمها، وتوالت صفحات كاملة عن الحياة الشخصية والجنسية والخاصة لرجال التنظيم، كانوا يشبهون داعش بالتتار، وهل يخرج التتار من مدينة دخلوها؟.. وكانوا يعتبرون التنظيم دولة لها أمير، ووزراء ورجال دولة، ينقلون أخبارها، ويبشرون بحركة ترقيات وإحلال وتجديد وإيصال المياه والكهرباء داخل قرى التنظيم، ويهتمون بأخباره أكثر مما يهتمون بأخبار الإسكندرية وأسيوط والقاهرة أحيانًا.
لم يكن أحدهم اقترب ورأى، اكتفوا فقط بالتأليف، "داعش" موجود، ولابد أن تكون لديك روايتك الخاصة عنه، ليس مهمًا أن تكون صحيحة بقدر أهمية أن تنافس بروايتك الصحف، التي ستهزمك برواية مكذوبة هي الأخرى، أو منقولة عن دابق، الصحيفة الرسمية للتنظيم، بدلًا من التفتيش عن الحقيقة وراء خطوط التنظيم الإرهابي، والتعامل معه كقاتل محترف يريد حرق العالم لا يجوز الاستسلام لوجهات نظره، وروايته الخاصة عن غزواته وفتوحاته وقوته الجبارة.
أقسام الإسلام السياسي بالصحف كانت تنقل أخبار التنظيم الإرهابي من صحيفته الرسمية، تنشر في الصحف المصرية ما يريد التنظيم ترويجه عن نفسه، وتقدم له خدمة إعلامية وإعلانًا غير مدفوع الأجر دون أن تقصد.
شرحت له وجهة نظري: "الصحافة الآن تصنع صورة ذهنية مرعبة عن داعش، نساعد في نموه، نروج له دون أن ندري، نشتري له متابعين، ومريدين، ومحبين، وأنصار في مصر رغم أنه ليس موجودًا بيننا، نتعامل معه بنظرية درسناها في مدرجات كلية الإعلام، تقول: حين تريد التمهيد لشيء، اكتب عنه، أنسنه (اجعله إنسانًا طبيعيًا له أنشطته الطبيعية مثلك تمامًا) واجعله موجودًا وحاضرًا بقوة على الورق وشاشات التلفزيون والجلسات الخاصة، وسيتحول الكلام إلى واقع على المدى البعيد". فرد: ممكن يكون "مانشيت الجورنال": "هذا العدد منطقة محرَّرة من داعش"!
اقرأ/ي أيضًا: