لا ريب أنّ غزة تواجه الآن، كدأبها دائمًا، تحديات اقتصادية كبيرة بسبب العدوان الغاشم الذي تشنه قوات جيش الاحتلال على قطاع وسكانه، إذ ألحق هذا العدوان المتواصل خسائر كثيرة في أرواح المواطنين وممتلكاتهم وأرزاقهم، وأفضى إلى تداعيات خطيرة شملت جوانب الاقتصاد كافة، ومن ضمنها مجال التكنولوجيا الناشئ.
فمن المعروف أنّ غزة تشكل مركزًا تكنولوجيًا ناشئًا في فلسطين والمنطقة، إذ سعت الشركات العالمية إلى التعاون مع أفراد مستقلين وبارعين في هذا المجال، فضلًا عن الشركات الناشئة التي أخذت تبرز في المنطقة تدريجيًا. وتشير تقديرات المطلعين على هذا المجال إلى ضخ استثمارات قدرها 10 ملايين دولار أمريكي في البنية التكنولوجية الفلسطينية. وطوال السنين الماضية، برزت مبادرات تكنولوجية كثيرة أهمها مبادرة Gaza Sky Geeks ومقرها في غزة، إذ توفر لسكان القطاع استثمارات أولية ودورات تدريبية وموارد تكنولوجية متعددة. بيد أنّ هذا كلّه تبدد بين عشية وضحاها بعدما دمّر الاحتلال الصهيوني البنية التحتية للقطاع المحاصر.
جمود يصيب قطاع التكنولوجيا
لا ريب أنّ العدوان الإسرائيلي ألحق ضررًا فادحًا بالنظام البيئي التكنولوجي في غزة، الذي كان يشكو أصلًا من الوضع الهش جرّاء الحصار الطويل المفروض على قطاع غزة. ويبدو الآن أنّ الدمار المادي والاقتصادي الناجم عن الحرب قد يهدد مستقبل هذا المجال الذي ما كاد يبصر النور حتى باغته العدوان وأفضى به إلى المجهول.
وكان موقع techcrunch الإلكتروني أجرى حديثًا مع ريان ستورجيل، وهو مواطن أمريكي ورئيس سابق لمبادرة Gaza Sky Geeks (تعرف اختصارًا بـ GSG) التي تديرها منظمة المساعدات الإنسانية ميرسي كور Mercy Corps، إذ تحدث ستورجيل عن الوضع الراهن في غزة ووصفه بالفظيع والمريع عقب موجات القصف الهمجي للجيش الإسرائيلي.
يقول ستورجيل: "لقد سُوّيت المنطقة المحيطة بمبنى منظمة ميرسي كور بالأرض تمامًا، وهناك كان يقع مركز فريق مبادرة GSG. صحيح أنّ هيكل المبنى ما يزال قائمًا لكنه مدمر الآن، وتبدو واجهته متداعية جرّاء القصف".
ألحق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ضررًا فادحًا بالنظام البيئي التكنولوجي الذي كان يشكو أصلًا من الوضع الهش جرّاء الحصار الطويل المفروض على القطاع
وعلى العموم تعد مبادرة GSG أكبر مركز تكنولوجي في فلسطين المحتلة، إذ يتيح مجموعة متنوعة وواسعة من التدريب في مجال التكنولوجيا، وسبق للمركز في عام 2022 أن خرّج نحو 5،000 مبرمج ومطور من جميع أرجاء غزة والضفة الغربية.
يضيف ستورجيل، الذي ساعد الشركات الفلسطينية الناشئة طوال الشهور الماضية في جمع الأموال لأعمالها: "لا أحد يدري ما الخطوة التالية، فالمكاتب دمرت كافة، وخطوط الألياف الضوئية دُمّرت كذلك، بل تدمرت أيضًا ثلاث جامعات كبيرة في غزة، وهي إلى ذلك كان تُخرّج سنويًا خريجين في علوم الكمبيوتر جميعها. لا أدري حقًا إن كان الناس سيعودون مستقبلًا إلى شمال غزة بعدما حصل اليوم، فالمؤسسات التعليمة التي قامت هناك اختفت الآن عن الوجود وتدمرت".
ويرى ستورجيل أنّ العدوان وجّه ضربة قاصمة لمجال التكنولوجيا في فلسطين، لا سيما بعد بزوغ نجمه في المدة الأخيرة، يقول ستورجيل: "شهد مجال التكنولوجيا نموًا كبيرًا في المرحلة الماضية، إذ عمدت شركات كثيرة في المملكة العربية السعودية إلى إنشاء مكاتب في فلسطين المحتلة بغرض التطوير الشامل لجميع أنواع التطبيقات والشركات الجديدة التي تبرز في الخليج.. بل توجد شركات عالمية كثيرة ممن لديها أكثر من 200 مطور يعملون في مكاتبهم في رام الله".
ويعتقد ستورجيل أنّ التأثير لا ينحصر في غزة وحدها التي تتعرض يوميًا إلى قصف مجنون بالصواريخ، إذ يقول إنّ الوضع في رام الله "شديد التوتر"، وقد يتفاقم كثيرًا في الأيام والأسابيع القادمة.
كذلك تشير السيدة إليانا مونتوك، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذية لشركة منارة الناشئة (Manara)، إلى صعوبة التواصل جرّاء العدوان، إذ تقول: "تعرضت غزة في السابق إلى القصف عدة مرات، لكنّ الأمر مغاير كليًا هذه المرة فيما يخص قطاع التكنولوجيا، إذ انقطعت الكهرباء عن قطاع غزة بأكمله، وقصفت معظم البنية التحتية في المدن، لا سيما مزودي خدمة الإنترنت والمباني السكنية الشاهقة التي تحتوي على أبراج الهاتف الخليوي، وأبيدت أحياء المواطنين من الطبقة المتوسطة عن بكرة أبيها".
وتتابع السيدة مونتوك حديثها: "تعطل قطاع التكنولوجيا عن العمل في الوقت الراهن، فالناس يعيشون في خطر داهم يعيقهم عن العمل، واضطر بعضهم إلى إخلاء بيوتهم عدة مرات في اليوم الواحد، فينتقلون من منزل إلى آخر لأنّ القصف يطال الأحياء واحدًا تلو الآخر. وفي الغالب يتلقون تحذيرات لإخلاء منازلهم قبل 10 دقائق من القصف، لذلك لا ينامون ويظلون يراقبون الوضع باستمرار وهم على أهبة الاستعداد للخروج وإخلاء البيوت بسرعة".
وتستفيض مونتوك في الحديث عن المشكلات التي تواجه موظفي شركتها، فتقول: "لم يعد معظم الناس قادرين على الاتصال بالهواتف المحمولة أو الوصول إلى شبكة الإنترنت، في حين لم يستطع بعضهم الوصول إلى شبكة الجيل الثاني إلا بهواتفهم المحمولة فقط. وانقطعت الكهرباء كذلك فلم تعد تأتي عدة ساعات يوميًا كحالها سابقًا، وبدأ كميات الوقود بالنفاد، فتعذر على الموظفين مثلًا تشغيل المولدات للعمل".
وتشير مونتوك إلى معاناة بعض موظفيها، فبعضهم يقيمون في خارج غزة، في حين تعيش عائلاتهم داخل القطاع، وقد تعرضوا إلى قصف شديد وعنيف طال جميع الأحياء داخل مدنه. وتتابع مونتوك حديثها: "كان مجال التكنولوجيا في غزة يشهد نموًا بارزًا قبل التصعيد، ففي المدة السابقة ذهبت إلى الرياض والتقيت مسؤولين في شركات ممن يوظفون فرق تطوير برمجيات من غزة، فشركة Upwork وشركات أخرى في واد السيليكون يعينون مهندسي برمجيات من غزة. كذلك غادر بعض الأفراد الاختصاصيين القطاع للعمل خارجًا في شركات كثيرة، مثل جوجل وأمازون وغيرها".
كذلك امتدت هذه التأثيرات السلبية لتشمل نشاط شركات التكنولوجيا في الضفة الغربية، فأغلب الشركات تعمل بنطاق محدود، لا سيما أنّ الموظفين يتعذر عليهم بلوغ مكاتبهم بسبب الطرق الخطرة التي أغلقتها قوات الاحتلال وجموع المستوطنين، بل إنّ بعض الشركات توقفت عن العمل كحال نظيراتها في غزة. والجدير ذكره أنّ بعض المباني الضرورية لصناعة التكنولوجيا في غزة، مثل برج الوطن، قد تدمرت بفعل الغارات الجوية الإسرائيلية، مما فاقم حال المجال خلال العدوان.