نشرت مبادرة "JournalismAI"، التابعة لكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، تقريرًا استطلاعيًا مطولًا شمل ما يربو عن 100 مؤسسة إخبارية في 46 دولة حول العالم، وعُنِيَ بدراسة تعامل المؤسسات والهيئات مع الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المصاحبة له. وقد أجري الاستطلاع خلال الوقت الممتد بين شهري أبريل/نيسان ويوليو/تموز من العام الحالي.
النتائج التي خلصت إليها المبادرة في تقريرها مؤيدة لدور الذكاء الاصطناعي في الصحافة
ويبدو أنّ النتائج التي خلصت إليها المبادرة في تقريرها مؤيدة لدور الذكاء الاصطناعي في الصحافة؛ إذ ترى نسبة قدرها 73% من المؤسسات الإخبارية المشمولة بالاستطلاع فرصًا جديدًا في مجال الصحافة جرّاء دخول نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل نموذج المحادثة الآلي تشات جي بي تي (ChatGPT)، ونموذج بارد (Bard) من شركة جوجل.
وأشارت نتائج الاستطلاع كذلك إلى اعتماد نسبة قدرها 85% من المشاركين على الذكاء الاصطناعي في بعض المهام الوظيفية؛ وهذا يشمل الصحفيين والمديرين وخبراء التكنولوجيا في المؤسسات الإخبارية، ممن جرّبوا نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي لإتمام مهام معينة، مثل توليد الصور أو كتابة أكواد برمجية أو إنشاء ملخصات لبعض المؤلفات.
وتطرق بعض أولئك المشاركين إلى أهمية الذكاء الاصطناعي في توفير الوقت اللازم للأعمال الإبداعية، لا سيما أنّه وسيلة مفيدة في إنجاز المهام التي كانت تستلزم منهم وقتًا طويلًا في السابق، مثل تفريغ المقابلات أو تدقيق الحقائق في التقارير الصحفية. وحدا هذا الأمر بمحلل فرنسي- متخصص بالذكاء الاصطناعي ومشارك في الاستطلاع- إلى القول: "لا ريب أنّ الذكاء الاصطناعي التوليدي يُحدِثُ تغييرات بارزة في طريقة تعاطينا مع المعلومات، ويُعيننا على إدراك كميات هائلة من البيانات، ويكفل المساواة بين الأفراد البارعين في التعامل مع البيانات ونظرائهم الأقل مهارة وحذاقة".
وأثنى المشاركون كذلك على مزايا نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ فوصفوها بأنّها سهلة المنال فلا تقتضي إلمامًا عميقًا ولا مهارات تكنولوجية للتعامل معها، وأطروا أيضًا على قدرتها على فهم السياق المقصود؛ فهي بذلك تتمايز عن تقنيات الذكاء الاصطناعي الأخرى، التي تتطلب عمومًا براعة وخبرة في مجالات معينة، مثل البرمجة.
وصحيح أنّ المشاركين أبدوا إعجابهم بهذه الفرص الواعدة التي توفرها نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي في مجال الصفحة، لكنّهم أقروا في الوقت عينه بضرورة إشراف العنصر البشري على فحص المحتوى الذي تأتي به تلك النماذج، فهذا الأمر يخفف من الأضرار المحتملة مثل افتقار المحتوى إلى الدقة أو طغيان التحيّز عليه. وفي هذا الصدد قال محرر صحفي، يتولى مهمة كشف المعلومات الكاذبة والزائفة في منصة إسبانية لتدقيق الحقائق: "مهما بلغ تقدم الذكاء الاصطناعي وتطوره، فلا غنى إطلاقًا عن المعايير البشرية في عملية تدقيق الحقائق".
من جهة ثانية، أعربت نسبة قدرها 60% من المشاركين عن هواجسهم وقلقهم من التأثير الأخلاقي للذكاء الاصطناعي على القيم الصحفية، ومنها تحري الدقة والإنصاف والشفافية وغيرها.
وصحيح أنّ غرف الأخبار العالمية تجابه تحديات متعلقة بدمج الذكاء الاصطناعي في مهامها وعملها، غيرَ أنّ التحديات تبدو أوضح وأشدّ داخل غرف الأخبار في بلدان الجنوب؛ إذ تطرق المشاركون في هذه النقطة إلى التحديات اللغوية والسياسية والهيكلية التي تواجهها، وقالوا صراحة إنّ نصيب بلدان الشمال من الفوائد الاجتماعية والاقتصادية للذكاء الاصطناعي أكثر من غيرها؛ فهناك تتوفر بنية تحتية أفضل وموارد سهلة المنال. وفي الوقت عينه ما تزال معظم بلدان الجنوب تكابد التداعيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للاستعمار في مرحلة بعد الاستقلال.
وعلّق أحد المشاركين من الفيليبين على هذه المسألة بقوله: "أتيحت معظم تقنيات الذكاء الاصطناعي المطورة باللغة الإنكليزية غالبًا، دون أن تتوفر باللغات الآسيوية.. وهذا الأمر يدفعنا إلى بذل جهود مضاعفة لإنشاء أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتطوير أنظمة تراعي لغاتنا المحلية".
وأفاد نحو 80% من المشاركين بأنهم يتوقعون زيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار ضمن مؤسساتهم الإعلامية، وهذا الأمر، حسب مؤلفي التقرير، فرصة جوهرية للصحفيين "البارعين" حتى يستفيدوا من الذكاء الاصطناعي في زيادة عدد الأعمال والتقارير التي ينجزوها بأنفسهم.
ويعلق تشارلي بيكيت، المؤلف المشارك في هذا التقرير ومدير مبادرة JournalismAI، على النتائج السابقة، فيقول: "تجتاز الصحافة في أرجاء العالم مرحلة أخرى من التغيير التكنولوجي المشوب بالحماس والخوف؛ فاستطلاعنا يبين بجلاء أنّ أدوات الذكاء الاصطناعي تهديدٌ محتملٌ، ولا ريب، لنزاهة الوسائل الإخبارية والإعلامية، لكنّها في الوقت عينه تتيح فرصًا رائعةً للارتقاء بالصحافة وتعزيز كفاءتها وفعاليتها وموثوقيتها. ومن هذا المنطلق يقدّم هذا الاستطلاع لمحةً موجزةً عن وسائل الإعلام الإخبارية في مرحلة حرجة من تاريخها".
كذلك تقول ميرا ياسين، وهي باحثة رئيسية ومؤلفة مشاركة في التقرير: "استمتعنا حقًا بالتواصل مع أكثر من 100 مؤسسة إعلامية متباينة في الحجم والمنطقة واللغة والرسالة ونموذج الأعمال، وسررنا كثيرًا بالاستماع إلى تجاربهم وهواجسهم بخصوص دمج الذكاء الاصطناعي في الصحافة".
لو أردنا الاستفادة من الذكاء الاصطناعي بطريقة منصفة، فحريّ بنا أن نتبنى إطارًا واعيًا لدور القوة عند تطوير الذكاء الاصطناعي وتبنيه على مستوى العالم
وتواصل ياسين كلامها: "أدركنا منذ البداية أنّ الذكاء الاصطناعي ذو تأثير مزدوج كغيره من الأمور في حياتنا، بيد أنّ تقريرنا استعرض بوضوح التفاوت العالمي في هذا المجال؛ فلا ريب أنّ بلدان الشمال تنعم بالفوائد الاقتصادية والاجتماعية للذكاء الاصطناعي، في حين تتضرر بلدان الجنوب بمساوئه المختلفة (التحيز الخوارزمي مثلًا)، وبذلك تتفاقم حالُ التفاوت بين بلدان العالم. ولو أردنا الاستفادة من الذكاء الاصطناعي بطريقة منصفة، فحريّ بنا أن نتبنى إطارًا واعيًا لدور القوة عند تطوير الذكاء الاصطناعي وتبنيه على مستوى العالم، وهذا أمر مُغيّبٌ في معظم النقاشات الدائرة بخصوصه. ويسعى تقريرنا طبعًا لمعالجة هذه المسألة وإيلاء عناية فائقة بالتحديات المحدقة بالأغلبية العالمية".