تقترن تسميات كثير من المدن الجزائرية بالعيون والينابيع، سواء كانت بالعربية أو الأمازيغية، بما يدل على ارتباط الإنسان الجزائري بالمكان. تلمسان من بين المدن الجزائرية التي تسمّت بالينابيع. يقول المستشرق الفرنسي جورج مارصي، توفي عام 1962، إن لكلمة تلمسان في اللغة الأمازيغية شقين هما "تالا" أي المنبع و"يمسان" أي الجاف، غير أن الوفرة الدائمة للمياه في المنطقة، تثير فينا الفضول لمعرفة سبب هذه التسمية، فالمدينة دائمة الاخضرار، حتى أنها تنافس المدن الجزائرية في علاقتها بالشجرة، فعدد أشجارها يتفوق على عدد مساكنها.
كانت تلمسان تسمى أغادير أي القلعة بالأمازيغية، حكمها الرومان من الثلث الأخير للقرن الخامس الميلادي، إلى عام 671 موعد قدوم العرب المسلمين
تتأكد هذه العلاقة بالماء والخضرة بزيارة "شلال لوريط" شرق المدينة، والذي يعد أعلى شلال في الجزائر بـ350 مترًا، منها 120 مترًا بارتفاع مستقيم، توقف عن التدفق بعد إقامة "سد مفروش" أعلاه، لكنه عاد إلى الحياة من جديد عام 2009، مخترقًا سكة الحديد الرابطة بين المدينة والجزائر العاصمة التي تبعد عنها بـ700 كيلومتر، تمامًا في الجسر الذي شيده غوستاف إيفيل في القرن التاسع عشر، وهو نفسه مصمم البرج الشهير في باريس.
اقرأ/ي أيضًا: عنابة.. هدية التاريخ للجغرافيا
تتحالف الشلالات والسواقي والينابيع والأشجار والبحيرات والمغارات الصغيرة والطيور، في تشكيل جنة "لوريط"، التي يمكن لداخلها الاختلاء بنفسه فيها، نائيًا عن ضوضاء يومياته المعتادة، وغير بعيد عنها يمكنه أن يتوغل تحت الأرض 57 مترًا بطول 700 متر، في "مغارة بني عاد" التابعة لـ"بلدية عين فزة".
كانت تلمسان تسمى أغادير أي القلعة بالأمازيغية، حكمها الرومان من الثلث الأخير للقرن الخامس الميلادي، إلى عام 671 موعد قدوم العرب المسلمين بقيادة عقبة بن نافع، لتظل إما عاصمة لإحدى الإمارات الإسلامية، وإما تابعة لها، هي بنو زناتة والأدارسة والمرابطون والموحدون وبنو عبد الواد والمرينيون، وأخيرًا العثمانيون الذين توقفوا عند تخومها مع المملكة المغربية، قبل أن يحتلها الفرنسيون إلى غاية عام 1962.
لا تزال تلمسان تحتفظ بمعالم تاريخية وحضارية تعود إلى هذه الحقب، منها "قلعة المشور" في قلبها تمامًا، بناها الأمير الزياني ياغمراسن سنة 1234، لتتحول بعدها إلى إقامة رسمية لملوك بني عبد الواد الذين حكموا المدينة ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر.
داخل سور القلعة، التي تم ترميمها وإعادة فتحها للجمهور بمناسبة تعيين تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2011، عدة مرافق ومعالم منها المسجد الذي شيده أبو حمو موسى الأول في القرن الرابع عشر، والقصر الملكي الذي يقول ابن خلدون إن عبد الرحمن بن تاشفين هو مشيده مع المدرسة المنسوبة إليه عام 1320. كما نجد مقر "جمعية الدار الكبيرة" التي تعنى بتراث الروائي محمد ديب المتوفى عام 2003، وقد كانت تلمسان فضاء مكانيًا لبعض رواياته، ومدرسة الفنون الجميلة ومعهدًا للسياحة والفندقة.
كما حُولت زوايا من القلعة إلى مراكز للتوثيق منها مركز "تفسير اللباس التقليدي الجزائري والممارسات الشعبية"، وهو الأول من نوعه على المستويين العربي والأفريقي، حيث يمكن الوقوف على تفاصيل الألبسة التقليدية النسائية والرجالية عبر تواريخها المختلفة، منها الأزياء التلمسانية التي تتجلى خصوصيتها في الأعراس والمناسبات الدينية. تقول مديرة المركز إنه كان ثمرة لتصنيف منظمة اليونيسكو عام 2012 للباس الزفاف التلمساني ضمن التراث الثقافي اللامادي. "بات معروفًا عن المركز تنظيمه معارض دورية للتعريف بالألبسة التقليدية، كان من بينها معرضان عن القفطان والحايك".
في الجهة الشمالية للقلعة، تم تحويل مخزن السلاح الذي أقامه العثمانيون، إلى مقر لنشاطات ترفيهية ومسرحية موجهة للأطفال، يشرف عليها نخبة من الشباب المهتمين بالمسرح وفن التنشيط. يقول الممثل كريم حمزاوي لـ"الترا صوت" إن وجود مسرح في الهواء الطلق داخل القلعة، ساعدهم على تقديم عروض تنسجم مع طبيعة الطفل الميالة للانطلاق. ويضيف: "لقد باتت القلعة نابضة بالحياة، بعد ترميمها من جديد، ونحن نستقبل يوميًا زوارها بعروض فنية".
تتميز شوارع المدينة وأزقتها التي تسمى محليًا "دروبًا"، بالنظافة والظلال الدائمة، مثل "درب سيدي حامد" الذي يفصل بينه وبين "قلعة المشور" شارع مكتظ بالمقاهي التي توفر لزبائنها مقاعدَ وطاولات على الرصيف. في هذا الدرب يمكن للسائح أن يتناول طبق الحريرة التلمسانية، بدءًا من الثامنة صباحًا، ويقتني تحفًا وألبسة تقليدية، تأتي في مقدمتها الألبسة المغربية، خاصة النسائية منها.
تتميز شوارع تلمسان وأزقتها بالنظافة والظلال الدائمة ويمكن للسائح أن يتناول فيها طبق الحريرة التلمسانية ويقتني تحفًا وألبسة تقليدية
اقرأ/ي أيضًا: "البليدة" الجزائرية.. مدينة الورود الساحرة
ترتبط تلمسان بالولي الصالح والمتصوف أبي مدين شعيب الإشبيلي الذي دفن في شرقها خلال القرن الثالث عشر، في طريقه من بجاية إلى المغرب الأقصى، وتحوّل ضريحه إلى مزار شعبي يأتيه الزوار من المحافظات الثماني والأربعين، ليس للتبرك فقط، بل للوقوف على التحف المعمارية المحيطة به أيضًا، منها المسجد الذي شيده المرينيون في القرن الثالث عشر، بهندسة تجمع بين جماليات المعمارين المغربي والأندلسي. يقول سليم. ح، طالب علم مقارنة الأديان في "جامعة الأمير عبد القادر" بقسنطينة: "أجمع أكثر من سبعين عالمًا على أن الدعاء في حضرة سيدي بومدين مستجاب، ويسرني أنني زرته وصليت فيه".
كما ترتبط بلالة ستي، ليس بوصفها ولية صالحة يعتقد التلمسانيون أنها كريمة عبد القادر الجيلاني فقط، بل بوصفها منتجعًا سياحيًا يرتفع عن المدينة بـ800 متر أيضًا. ويتوفر على برج لمشاهدة المدينة في الأسفل وفندق ذي خمس نجوم ومجمع للتسلية خاص بالأطفال ومركز خاص بتاريخ المنطقة الخامسة في ثورة التحرير، وتعلوه غابة ثرية بالظلال والأشجار كانت مصيفًا للمستوطنين الفرنسيين.
بحلول العصر، تزدحم الهضبة، بما يعطي انطباعًا بأن المدينة كلها اعتلتها، في دبيب تنتفي فيه الفوارق بين العائلات التي تتوحد في الاستماع إلى موسيقى الحوزي، التي عرفت بها تلمسان منذ القرن الخامس عشر، علـى يد الشاعر سعيد بن عبد الله المنداسي (1583ـ1677)، وتتميز بمقطوعات شعرية قصيرة باللهجة العامية، منها: "تلمسان ماها وهواها ونساها" الثلاثية التي تلخص المدينة في جمال الماء والهواء والنساء.
اقرأ/ي أيضًا: