وصل التنويريون إلى الدراما. أو ربما صار صناع الدراما تنويريين.
وما المشكلة؟
لا مشكلة طبعًا لولا أن الدراما التلفزيونية تستعيد أكثر نسخ التنوير بؤسًا وابتذالًا، تلك النسخة القائمة على تقريع الجماهير الغارقة في جهلها، العصية على الحداثة والتحديث، المحبِطة لكل جهود حكوماتنا الرشيدة في التقدم والنهضة والازدهار.
وكأننا لا نزال في مطلع القرن العشرين، وكأن كل المياه (بل وكل الدماء) التي جرت في البلاد العربية، منذ ذلك الوقت، لم تغير من واقع الحال شيئًا، ولم تنجح في تبديل المعادلة الراسخة: الدولة الحديثة في مواجهة الناس المقيدين بعادات وعقائد وأفكار بالية وعنيدة..
وماذا عن النخب التي تحكمنا منذ عقود طويلة، وتمسك بتلابيب مجتمعاتنا، وتسيطر على أدق تفاصيل حياتنا؟ التنويريون الجدد، كما أسلافهم، يعفون هذه النخب من مسؤولياتها، ولا يوجهون إليها كلمة لوم واحدة
والدواء لا يزال هو نفسه: تنوير الجماهير.. بالحسنى أو بالإكراه إذا اقتضى الأمر. وهكذا فهذا النهج الذي لم يُجدِ عبر آلاف الكتب وعشرات الآلاف من الصحف، ربما يكون قد وجد، أخيرًا، وسيلته المثلى: الدراما التي تدخل كل بيت وتغزو كل عقل.
يبدو الأمر دومًا مع "تنوير" كهذا، وكأننا نعيش، منذ مئة سنة، في ديمقراطية بسيطة صافية ومثالية، حيث الشعب يحكم نفسه بنفسه ولنفسه، وبالتالي فهو مسؤول مسؤولية كاملة عما تؤول إليه حياته وشؤونه، وهو يستحق كل اللوم، إذ لا يزال يحيا في ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية بالغة السوء..
وماذا عن النخب التي تحكمنا منذ عقود طويلة، وتمسك بتلابيب مجتمعاتنا، وتسيطر على أدق تفاصيل حياتنا؟
التنويريون الجدد، كما أسلافهم، يعفون هذه النخب من مسؤولياتها، ولا يوجهون إليها كلمة لوم واحدة. على العكس فهم يثيرون شفقتنا عليها وتعاطفنا معها، إذ تتجشم أعباء حكمنا كل هذه السنوات، ونحن بالمقابل نتشبث بجهلنا وعنادنا، ونظل نناكفها، إذ نرفض التقدم والحداثة مسببين لها إحباطًا مزمنًا!
مسلسل "حضرة العمدة" لـ إبراهيم عيسى، الذي صار فجأة كاتبًا كبيرًا (كما كُتب في مقدمة المسلسل)، نموذج معبر، وكلمات شارة البداية، التي كتبها أيمن بهجت قمر ولحنها وليد سعد، تلخص مضمون المسلسل، ومضمون هذا النوع من "التنوير".
تقول الكلمات:
الكلام ده عايز أقوله واللي يزعل يتفلق
همنا بتزيد حموله كل ما الواحد قلق
أي خير بالصبر ييجي مش زرار دوس يتدلق
اللي يهري يهري
واللي يفتي يفتي
بس بكرة هتبقى فل على حسب معرفتي
هي ماشية حبة حبة
واللي شاري غير اللي ربى
أي متفلسف تجيبه تقوله حِل هيستخبى
احنا أجدع ناس تقاوح، بؤ لاء وندق جدا
واحنا حبة طرش فيها وعمالين على بعض ندن
أصولنا متفرعنة ومفطونين أرننة
وضخمة فينا الأنا وده أبًا عن جدًا
فأي حيلة لنخبنا ودوائر القرار عندنا إزاء شعب هذا هو حاله وهذه هي صفاته السلبية الخالدة الموروثة أبًا عن جد؟!
وبما أنها تمعن في هذا التعامي وفي هذا الاستهبال، فإننا نستطيع المراهنة على أن الفشل سيكون من نصيب هذه النسخة من التنوير أيضًا.
ولكن من قال إن التنويريين هؤلاء يريدون النجاح أصلًا؟! إنهم فقط يريدون أن يكونوا فرسانًا في ميدان ما ومعركة ما، ولا يوجد ميدان أكثر أمانًا ولا معركة أكثر سهولة من أن تشن حربًا على طواحين هواء.