أوشك تطبيق ثريدز في ساعات انطلاقته الأولى على الوصول إلى 100 مليون مستخدم. أزعم أن العديد من المشتركين ذهبوا إلى ثريدز نكاية في الملياردير المهووس إيلون ماسك، المالك الجديد لمنصة تويتر، وهو أمر شبيه بالتصويت العقابي في الانتخابات، وبهذا يمكننا تسمية موجة الحسابات الجديدة على ثريدز بالاشتراكات العقابية.
قمت بإنشاء حساب على المنصة الجديدة كإثبات حضور ومواكبة لما يحدث في العالم، وكمتابعة لعملي الصحافي، متابعة ضرورية حينًا ومرهقة أحيانًا، اكتفيت بالمراقبة والقراءة والتصفح لحسابات الأصدقاء والمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، جل ما لاحظته أن الغالبية العظمي لم تغرّد أو "تثرّد" بأي محتوى يتضمن معلومة جديدة أو قيمة مضافة، أغلب التثريدات، حتى تلك التي نشرتها المؤسسات الصحفية والإعلامية، لم تذهب لأبعد من إثبات الحضور وإعلان الوجود.. نحن أيضًا هنا ولدينا حساب على ثريدز.. كذلك أُعلنت مؤسسة الرئاسة المصرية كأول رئيس دولة في العالم يثرّد عبر المنصة الجديدة.
الإقبال الكبير على منصة ثريدز ليس دليلًا على نجاحها، فما يضمن البقاء والتهديد الحقيقي لتويتر هو استمرار الإقبال والتفاعل من المشتركين والقدرة على جذب جمهور تويتر وشرائح أوسع
ساعدت القرارات الأخيرة التي اتخذها إيلون ماسك في زيادة الاشتراكات العقابية، كاعتراض من مستخدمي المنصة على ما يفسده ماسك بها. هذه القرارات التي أؤمن أنها قرارات فردية ذات نزعة للتسلط وإحكام السيطرة على المستخدمين ورغباتهم، فضلًا عن الجشع في جني المزيد والمزيد من الأموال، بداية من فرض اشتراك شهري لتوثيق الحسابات، وصولًا إلى وضع حد يومي لعدد التغريدات التي يمكن لغير المشتركين قراءتها وعدد أكبر للمشتركين، في وصاية أبوية على مستخدمي المنصة، تنزع عنهم حرية الاختيار في الكيفية التي يرونها مناسبة لقضاء أوقاتهم، وكأن ليس لديهم المقدرة على التفرقة بين ما هو نافع وما هو مُهلك.
هذا الإقبال الكبير على المنصة ليس دليلًا على نجاحها، فما يضمن بقاءها وتهديدها الحقيقي لتويتر هو استمرار الإقبال والتفاعل من المشتركين والقدرة على جذب جمهور تويتر وشرائح أوسع، عامل النجاح سيكون القدرة على الاستمرارية والمنافسة وتقديم بديل مريح وسهل الاستخدام ويقدم نفس المزايا وأكثر.
في البداية، هرب بعض المستخدمين من فيسبوك إلى تويتر، كمساحة أكثر رحابة في التعبير عن الآراء وأقل تشددًا في سياسات النشر والحظر والرقابة على المحتوى، ثم عاد المستخدمون مرة أخرى إلى التفاعل مع فيسبوك بشكل أكبر هربًا واعتراضًا على قمع ماسك وجشعه وتحكمه في المنصة بمنطق "صاحب السيما وابنه"، وليس ضمن قواعد مؤسسية لها وجاهتها، هذه القرارات الغبية دفعت العديد للعودة لفيسبوك وكلهم غضب من ضيق الفضاءات الافتراضية عليهم، وضرورة الاختيار بين السيئ والأسوأ حسب تقلبات السوق. عندما أعلن زوكربيرغ عن منصته الجديدة ثريدز، كان العامل الرئيس في نجاحها المسبق هو التشفي والشماتة في ماسك، في ظل افتقاد الفضاء الإلكتروني إلى أي مبادرات أو منصات بديلة.
مطورو التطبيقات والمواقع والمساحات المستحدثة في الفضاء الافتراضي، هم أنفسهم أصحاب الشركات الكبرى المسيطرون على سوق التكنولوجيا والمتحكمون في سياساته، فالأمل في تغيير أي سياسات أمر مستبعد، لا يتعدى الأمر تغيير الأفعوان لجلده.
قبل التوجه أفواجًا إلى ثريدز، علينا سؤال أنفسنا، هل نحن حقًا بحاجة لأماكن ومساحات جديدة للتحدث والتشاور والضحك والتفاهة؟ هل تتوفر مساحة أوسع من حرية التعبير على ثريدز؟ إذا تحدثنا مثلًا عن فلسطين والأراضي المحتلة، ألن تُحجب كتاباتنا وتُغلق أو تُقيد حساباتنا؟ وإذا شاركنا الصور والفيديوهات والمعلومات التي توثق لجرائم الجيش الإسرائيلي، ألن تعتبره الخوارزميات محتوى عنيفًا أو عنصريًّا أو تحريضيًّا؟ أتكون الرقابة على المحتوى المنشور أقل من مثيلاتها في المنصات الأخرى؟ هل تظهر التدوينات عند المتابعين بنفس الدرجة أم تتلاعب بنا الخوارزميات لتختار لنا ما يناسبنا حسب أهوائها؟
والسؤال الأخير والأهم، هل تتوقف المنصات الجديدة عن استغلال معلومات المستخدمين والتلصص عليهم، واستغلال هذه المعلومات في التسويق لشركات المنتجات وجنى الأرباح، أو حتى بيعها بمبالغ ضخمة لأجهزة مخابراتية ولحكومات قمعية تستخدمها لتطور من آليات الاستبداد والسيطرة؟
بالطبع، سنستخدم المنصة الجديدة حتى لا يفوتنا القطار، لكن أيضًا ربما حان الوقت للتفكير في ما يُقال وفي ما لا يُقال، وفي ضرورة استحداث طرق وبدائل للتعبير حتى لا نظل مكبلين برؤى وسياسات مالكي المنصات، ربما حان الوقت للتوقف عن الكلام لمجرد الكلام وإثبات الوجود، ربما حان الوقت لخفض الثرثرة الافتراضية والعودة مرة أخرى إلى دردشة المقاهي.
في مرثيته لرجل عظيم، يقول الشاعر المصري صلاح عبد الصبور:
"كان يريد أن يرى النظام في الفوضى
وأن يرى الجمال في النظام
وكان نادرَ الكلام
كأنه يبصر بين كل لفظتين
أكذوبة ميّتة يخاف أن يبعثها كلامُهُ".