غالبًا ما يتم تصوير الحروب، في وسائل الإعلام والتقارير الحقوقية وخطابات مؤسسات حقوق الإنسان، كخسارة، لكننا نادرًا ما نسأل: خسارة من ولمن؟ وعلى نفس النحو، يتم تصوير الموت كمأساة إنسانية واحدة ومشتركة، لكننا غالبًا ما نفشل في فهم اللامساواة العميقة التي ينطوي عليها تمثيل الموت، كامتداد للتمثيلات العرقية والجندرية والطبقية للحياة نفسها.
في كتابها "أطر الحرب: متى تستحق الحياة الحسرة؟" تسائل المفكرة النسوية البارزة جوديث بتلر هذه "التأطيرات الانتقائية والتفاضلية للعنف"
تبدو هذه التمثيلات اللامتساوية واضحة بشكل جلي في التغطية الإعلامية، وكذا الخطاب الحقوقي حول الحرب في أوكرانيا. حيث حظي الضحايا باهتمام واسع تجاوز أي استقطاب. تدخلت دول طالما نادت بالحياد في كل القضايا. اختفى فجأة الخطاب المعادي للاجئين وتعهدت الدول الأوروبية باستقبال غير مشروط للفارين من الحرب الروسية. لم يتم إنتاج خطاب عام متعاطف مع الضحايا وحسب، ولكن تم التأكيد على اختلافهم وتميزهم كضحايا "متحضرين"، ليسوا من أفغانستان أو العراق.
اقرأ/ي أيضًا: أوكرانيا: عن الاعتداء على الحياة التي تستحق العزاء
لم يكن هذا الإصرار على التفريق بين الضحايا مجرد زلة لسان وقع فيها عدد من السياسيين والصحافيين، لكنه يعكس ما هو أعمق من ذلك. في كتابها "أطر الحرب: متى تستحق الحياة الحسرة؟" Frames of War: When Is Life Grievable? (فيرسو، 2009)، تسائل المفكرة النسوية البارزة جوديث بتلر هذه "التأطيرات الانتقائية والتفاضلية للعنف". حيث تسأل ببلاغة كيف تعكس تمثيلات الموت والحياة في أوقات الحروب اللامساواة العميقة والراسخة، وكيف تكشف الحرب عن التقسيمات العميقة للعالم، بين من تستحق ومن لا تستحق حياتهم الحزن.
من خلال خمس مقالات متنوعة، تسلط بتلر الضوء على الطريقة التي "تؤطر" من خلالها الدولة ووسائل الإعلام الموت والمعاناة، في عالم من الحروب الذي تفشل الإطارات القائمة في فهمه. وبطبيعة الحال، فإن بتلر من وجهة نظر ما بعد بنيوية، تجادل بأن الإطار لا يؤطر صورة ما منفصلة عنه، ولكنه بطريقة ما يصنعها. وعلى هذا النحو، فإن تمثيل العنف ينطوي على عنف هائل، وينتِج (كما ينتُج عن) تقسيمات لأولئك الذين تملك أو لا تملك حياتهم قيمة.
في حين يركّز الكتاب على سياسات جورج بوش والتأطيرات المختلفة للحروب الأمريكية في "الشرق الأوسط"، فإن المقدمة الطويلة والنظرية، تقدم مساهمة بالغة الأهمية ليس فقط بشأن "سياسات الحزن" ولكن أيضًا سياسات الموت والحياة.
يمكن التفكير في الكتاب كامتداد للمجادلة التي قدمتها بتلر في كتابها "الحياة المتزعزعة: سلطة الحزن والعنف" Precarious Life: The Powers of Mourning and Violence (فيرسو، 2004) بأنه لا يمكن الإقرار بخسارة بعض الأرواح، ببساطة لأنه لم يتم اعتبارها من البداية حية، إذ لا يمكن أن يحدث الموت إلا لمن نعتبرهم بشرًا، تستحق خسارتهم الحزن. كما يمكن التفكير في الكتاب كامتداد لمشروع بتلر في كتب عديدة عن الحيوات التي تستحق "الحزن العام" Public Grief.
في كل هذه المساهمات، تشرح المفكرة النسوية المعروفة كيف يتم تصوير مجموعات معينة أنطولوجيًا كخطر محتمل على الحيوات التي تهم أو التي تستحق الحسرة. وعلى هذا النحو، فإنه يتعذر حتى تخيل موتهم كمأساة تستحق الأسى. بل وغالبًا ما يتم تبرير هذا الموت، من خلال وصفه كعرَض للمساعي الدؤوبة من أجل حماية وتوفير الأمان والمأوى للحيوات التي تهم.
من ضحايا حروب أمريكا في الشرق الأوسط، إلى المهاجرين واللاجئين، وضحايا الإيدز من المثليين جنسيًا في أفريقيا، فإن الوصف الوجودي الانتقائي لجماعات معينة كغير متحضرين أو خطيرين، يتحكم حسب المؤلفة بأهليتهم ليس فقط للحياة، ولكن للموت الذي يستحق الحزن. لذلك، فإن وصفهم أنطولوجيًا "من خارج لغة الحياة" يسقط موتهم من الحزن العام. وبنفس المنطق، فإن سياسات الحزن تعزز، من خلال تضخيم الاهتمام بجماعات بعينها، من التقسيم الصارم الذي يجعل بعض الحيوات لها قيمة حصرًا، على النقيض وربما من خلال التضاد مع حيوات أخرى.
الوصف الوجودي الانتقائي لجماعات معينة كغير متحضرين أو خطيرين، يتحكم حسب المؤلفة بأهليتهم ليس فقط للحياة، ولكن للموت الذي يستحق الحزن
لا تبدو بتلر متشائمة بشكل قطعي، حيث تقر بأنه يمكن مقاومة الأطر السائدة التي يتم النظر إلى العنف من خلالها. إذ إن هذه الأطر سائلة، ويمكن أن تخرج عن السياق. على عكس سوزان سونتاغ التي ترى أن الصورة فقدت قدرتها على تصوير المأساة، فإن بتلر تستشهد بمثالين، استطاع المحتوى فيهما الخروج عن الإطار. أولًا صور الجنود الأمريكيين في سجن أبو غريب، يبتسمون ويقفون بفخر مع سجناء. هذه الصور رغم أنها كانت في الأساس موضوعة في إطار "بارد" يجعل أجساد السجناء المعذبة خلفية لا قيمة لها، فإنها خرجت عن هذا الإطار وأعطت لمحة من "خارج السياق" عن عذابات ومعاناة هؤلاء الضحايا، وقسوة نظام التعذيب الأمريكي. وهو الأمر نفسه الذي استطاعت قصائد مهربة من سجن غوانتنامو أن تفعله.
اقرأ/ي أيضًا: