تعرضت طالبة فرنسية مسلمة تُدعى مريم بوجيتو لحملة انتقادات واسعة، بعد ظهورها ترتدي الحجاب في برنامج وثائقي تتحدّث فيه عن احتجاج الطلبة على إصلاحات التعليم التي اقترحها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون. اُتُّهمت مريم ضمن هذه الحملة بأنّها تستخدم الحجاب وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية، وردّت على هذا الاتهام بأنْ بيّنت أنّ حجابها هو جزء من عقيدتها الدينية وليس له أي وظيفة سياسية.
أعادت الانتقادات التي تعرضت لها بوجيتو الجدل حول الرموز الدينية والعلمانية في فرنسا
وقد أعادت حملة الانتقادات الواسعة هذه التي تعرضت لها بوجيتو، وهيَ رئيسة اتحاد الطلبة في جامعة السوربون، الجدل حول الرموز الدينية والعلمانية في فرنسا، الذي أدى بقسم ممن يسمون أنفسهم بتنويري العالم العربي إلى غضّ الطرف عن هذه الحملة، باعتبار فرنسا أمّ العلمانية التي لا تُخطئ، وبوصلة للتنوير والمتنورين التي بجب عليهم حيثما ولَّت وجهها أن يتبعوها بالتأييد الأعمى، حتى لو كان في هذا التأييد خروجًا عن العلمانية وجوهرها.
والعلمانية التي نقصد إليها هنا هي العلمانية في شكلها الإجرائي، بما هي فصل الدين عن الدولة، ورفض الاستغلال السياسي للدين، أي رفض الدولة الثيوقراطية، دولة الحكم الإلهي، التي تحكم فيها طبقة رجال الدين باسم السماء، أو باسم حكم الشريعة.
فالعلمانية وفقًا لهذا الشكل الإجرائي تُطالب بإتاحة الحريات العامة والسماح بكلّ الآراء والمعتقدات، أي أنّها تطلب من الدولة المدنية الوقوف على مسافة واحدة من جميع الديانات، وتحظر عليها إملاء الاعتقادات على الناس.
وهذه العلمانية بالطبع تختلف كثيرًا عن تلك العلمانية المتطرّفة، أيْ المؤدلجة التي ترفض الدين جملةً وتفصيلًا، وتريد إلغاءه وإقصاءه من حياة الناس بالكلية. فالعلمانية في شكلها المتطرّف هذا تأتي لتناقض نفسها ومبادئها من الأساس، فهيَ تقوم باسم عملية نقد تسييس الدين بإصدار حكم الإعدام بحقّ الدين، أي أنّها في رفضها العنيف للدين ترفض الاختلاف، وحقّ الآخر المتدين في الوجود.
اقرأ/ي أيضًا: برنامج "أنا مسلم" السويدي: الخروج من النمطية
وتبعًا لذلك، وبالعودة إلى حادثة مريم في فرنسا، فإنّ استخدام مبدأ علماني لحرمان فتاة مسلمة من حقّها في ارتداء رمز ديني خاص بعقيدتها، وتبرير ذلك بذريعة أنّ هذا الرمز سياسي أكثر مما هو ديني، يَعمل على تأسيس حالة تُشبه المفارقة، حيثُ يُصبح المبدأ الذي جاء بهدف تحرير الناس أكثر حرية من الناس الذين جاء لتحريرهم!
هذا كلّه يدفع للتساؤل، عن مكمن المشكلة الحقيقية. هل هي في الدين والعلمانية أم في الخطابات التي يستند إليها كلٌّ منهما ويستمدان منها مشروعيتهما، والتي تكون في بعض الأحيان، خطابات مكتفية بذاتها، متمركزة حول نفسها، ترفض الآخر وتٌقصيه؟
من الواضح تماماً أنّ خطاب العلمانية في شكله المتطرّف لا يختلف كثيرًا عن الخطاب الديني في شكله المتطرّف، وكما أنّ الدين بحاجة إلى تحريره من خطابه المتطرّف، فإنّ العلمانية أيضًا بحاجة إلى تحريرها من خطابها المتطرّف، لا شيء، إلا لتغدو منسجمة مع مبادئها الأساسية في التحرير والتنوير وإقامة مجتمعات مواطنة قائمة على أسس العدالة والمساواة. إنّ علمانية فرنسا اليوم بحاجة إلى علمنة جذرية، لأنّ تعلمنها في شكله المتطرّف المقونن هذا لا يأتي إلا ضدّ العلمانية نفسها.
اقرأ/ي أيضًا: