30-أكتوبر-2024
إيفلين عشم الله

الفنانة التشكيلية المصرية إيفلين عشم الله (الترا صوت)

في مبنى قديم يحمل طابعًا فنيًا فريدًا في وسط القاهرة التاريخية، التي تنطق بجمال العمارة ذات النسق الأوروبي، كنت على موعد مع الفنانة التشكيلية إيفلين عشم الله.

صعدت إلى الدور الثاني لأجد نفسي في شقة تمتزج فيها بهجة الألوان بوجه فنانة ذات روح وملامح طفولية في نسق فني رائع. وقد كان المكان مزدحمًا بأصدقاء يشاركون في هذا الفضاء المليء بالإلهام.

استقبلتني إيفلين بحفاوة، وبدأت أستمع إلى حديثها العذب الذي تطرقت فيه إلى كل شيء، من طفولتها المرحة إلى قضايا الحب والسياسة والدين، والحياة التي وصفتها بأنها "رحلة مليئة بالألوان"، مشبعة بروحها التي "تقفز كقفز غزال"، كما غنت فيروز.

حمل الحوار طياته عمقًا إنسانيًا، حيث كانت تحكي عن الأمل والتحديات والانتصارات في تجربتها الفنية. ومع كل جملة، كانت الألوان تتراقص حولنا، تنبض بالحياة، لتؤكد أن الفن ليس مجرد تعبير، بل هو وسيلة لعيش الحياة بكل أبعادها.

عشم الله: أسوأ اللحظات هي التي أتوقف فيها عن الرسم لأسباب قهرية، فكل خط على اللوحة يمثل لحظة عابرة من حياتي، تجربة عشتها، أو شعورًا لمسته

بهذه الروح، بدأ حوارنا الذي تخللته الضحكات والمشاعر، ونستكشف عبره، معًا، عالم إيفلين عشم الله، والفن الذي ينسج خيوط الحياة بمهارة وعاطفة.

تتحدث الفنانة إيفلين عشم الله بلغة الفن وألوانه، وتروي من خلاله حكايات مجتمعها، مجتمع الفلاحين والبسطاء. وفي معرضها الأخير، الذي نُظِّم في أيلول/سبتمبر الماضي تحت عنوان "حصاد سنين العمر" في "غاليري أزاد" بالزمالك، وسط القاهرة؛ قدّمت لنا 40 لوحة تتداخل فيها الألوان والأشكال التي تعكس تجاربها الحياتية ومسيرتها الفنية الطويلة.

ولدت إيفلين عشم الله عام 1948 بمدينة دسوق، محافظة كفر الشيخ، حيث نشأت في بيئة غنية بالتجارب الحياتية. ومن هذه البيئة، قررت أن تتخذ الفن وسيلة للتعبير عن كل ما يدور حولها.

تخرجت في كلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية عام 1973، وبدأت مسيرتها المهنية في الصحافة من خلال العمل في مجلة "روز اليوسف". لكن سرعان ما وجدت نفسها في عالم الفن، حيث شاركت في العديد من المعارض الجماعية والفردية قبل أن تتفرغ فيما بعد للفن التشكيلي تاركةً عالم الصحافة خلفها.

تنتمي الفنانة المصرية إلى جيل السبعينيات، الذي شهد تحولًا ملحوظًا في أسلوب التعبير الفني، خاصةً بعد هزيمة عام 1967. وتُشير إلى أن الفن بالنسبة لها هو "استكشاف للهوية المصرية"، إذ إنها تستمد إلهامها من حياتها اليومية ومن تجارب الناس الذين عاشت بينهم، وتحاكي في لوحاتها الحياة الريفية والألوان الزاهية التي تمثل التراث المصري، كما تعكس أعمالها صراعات وآمال البسطاء، وتسلط الضوء على جماليات الحياة اليومية.

تتميز إيفلين عشم الله بأسلوبها الفريد الذي يجمع بين الألوان الجريئة والأشكال المجسمة: "كل لوحة بالنسبة لي هي كائن حي، ولها روح خاصة". تفسر استخدام الألوان وسيلة لنقل مشاعرها وتجاربها، وتقول: "عندما أرسم، أستحضر تلك اللحظات الحية من الماضي، وأعيد تشكيلها بأسلوب فني يتناسب مع رؤيتي".

وحينما تولت إدارة متحف الفن المصري الحديث بين عامي 2000 – 2002، واصلت عشم الله تطوير مهاراتها والتوسع في فنها، وكان قرارها بالتفرغ للفن انعكاسًا لشغفها العميق ورغبتها في التعبير عن الذات بطريقة حرة وبدون قيود.

التحضير للمعرض

تقول إيفلين عن هذا الأمر: "أنا لا أحضر لمعرض بعينه، لأني أرسم طوال الوقت، لكن أجهز للوحة في خيالي ولا أستخدم الرسوم الأولية (الاسكتشات) وأعتبر بدايتها رحلة داخلية تتطلب مني استحضار كل مشاعري، ذكرياتي، وأفكاري. الرسم هو الحياة، وهو الشغف الذي يتدفق في عروقي، لذلك، كلما كنت على وشك إقامة معرض، أبدأ بجمع تلك اللحظات الثمينة التي تشكل جزءًا من هويتي كفنانة.

أحيانًا أستغرق وقتًا في التأمل، في استرجاع ذكريات الطفولة والمشاهد الطبيعية التي رأيتها، والأشخاص الذين أثروا في حياتي. أنا أعمل دائمًا ولدي الكثير بداخلي، ولا بد من التنفيس عنه بالعمل. فالرسم هو الحياة، ومن خلاله أراها.

أسوأ اللحظات هي التي أتوقف فيها عن الرسم لأسباب قهرية، فكل خط على اللوحة يمثل لحظة عابرة من حياتي، تجربة عشتها، أو شعورًا لمسته. هذه العملية ليست مجرد تحضير مادي، بل هي بحث عن المعنى الذي أريد أن أنقله من خلال فني. كل خط في لوحتي هو شيء حي بداخلي، كل منظر طبيعي رأيته، أي شيء اختبرته هو طازج دائمًا ويخرج في أي وقت. فقط أطلق لنفسي العنان ولا أقيدها. اللوحة عندي تولد كطفل، تبدأ بخط والخط يتحول لكائن، والكائن إلى عالم. لوحة تلو الأخرى تتكون مجموعة وأريد أن أشاركها للناس.

عندما أبدأ لوحة جديدة، أتعامل معها كما لو كانت كائنًا حيًا يولد أمام عيني. كل لوحة تنشأ كأنها كائن حي. لذلك أستطيع أن أبدأ في أي وقت، وأسمح للخطوط والألوان بالتدفق بحرية. في كل لوحة أعمل عليها، توجد قصص تجسد تجاربي، وأرغب في مشاركتها مع الآخرين. وعندما تتشكل هذه اللوحات معًا، تكتمل القصة التي أرغب في إهدائها لمن حولي".

محاولة لفهم كائنات إيفلين عشم الله

وعن كائناتها، تقول الفنانة المصرية: "كثيرون من الناس يسيئون فهم الكائنات التي أرسمها، ويرونها عفاريت أو كائنات فضائية. لكني لا أشعر بالانزعاج، فهذه التصورات قد تكون نتيجة للقصص التي نشأنا عليها. في طفولتي، كانت حكايات جدتي عن العفاريت تثير خيالي، وكنت أستمتع بها.

نشأت في مدينة دسوق على ضفاف النيل، وكان هناك مولد ضخم وكبير لأحد الأولياء، سيدي إبراهيم الدسوقي، المدينة كلها تستعد له من عام إلى عام، ويستمر لمدة شهر. أقرب ما يكون إلى الكرنفال، وهو كذلك. يأتي له الناس من جميع أنحاء مصر بكل الأشكال والاطياف كأنه حج. في هذا الجو، تنمو القصص والحكايات التي كانت تثير الخيال، والحديث عن الكائنات الخرافية يحفز الخيال لدى الأطفال أكثر فأكثر.

كنت أراقب أيضًا الطبيعة بكل تفاصيلها، وكذلك أراقب الحيوانات والحشرات، وأحبها، وأعجب بهيئتها. الانغماس في جمال الطبيعة أعطاني شعورًا عميقًا بوحدة الكائنات جميعًا. لم أشعر يومًا أن الإنسان له أفضلية على غيره. أؤمن بوحدة الكائنات كلها مع الإنسان، وهذا يظهر في أعمالي. من هنا، تولد كائناتي الفنية التي قد تبدو غريبة للآخرين، لكنها تمثل جزءًا من عالمي الداخلي".

لوحة للفنانة إيفلين عشم الله

الرسم بالحكي

وبشأن استخدام الحروف في أعمالها، تقول: "جاءت مرحلة استخدام الحروف في أعمالي بعد الثورة المصرية، عندما شعرت بالإحباط مما حدث في البلاد. كان من الغريب أنني، بعد فترة من التوقف عن الرسم، وبعدها التقيت بأصدقاء قدامى من أيام دراستي في فنون جميلة بجامعة الإسكندرية. استعدت الذكريات والمشاعر القديمة، لكن عندما أمسكت بالريشة، لم أستطع أن أرسم. أريد أن أكتب، لا أستطيع. فأخذت أرسم الحروف على اللوحة، فكل حرف موجود في اللوحة هو عالم مستقل، والحرف كائن حي. عندما أستخدم الحروف في أعمالي، أشعر بأنها تضيف عمقًا لتجربتي الروحية والفنية.

لستُ معنية بالانتماء إلى أي مدرسة فنية محددة، ومن يرى غير ذلك له مطلق الحرية. كل مرحلة في حياتي أعبر عنها بطريقة مستندة إلى مخزوني الثقافي والبصري؛ لذلك لا أريد أن أكون مقيدة بمسميات أو تصنيفات. كل لوحة تحمل قصتها، وأتمنى أن تصل إلى الناس بدون قيود. الحروف لم تكن مجرد إضافة جمالية، بل كانت تعبيرًا عن أفكاري ومشاعري".

لوحة للفنانة إيفلين عشم الله

الألوان وتأثيرها

تقول عشم الله عن الألوان إنها: "العنصر الأكثر أهمية في أعمالي. أحب الألوان الأساسية وأرى أنها تعكس الحياة بكل بهجتها. أستخدم الألوان وسيلة للتعبير عن العواطف والمشاعر، الألوان في لوحاتي تتلألأ تحت أشعة الشمس، كما هو الحال في الطبيعة، حيث تبرز الألوان بشكل ساحر. الألوان في لوحاتي تمثل الحياة، وتجعل كل عمل فني ينبض بتفاصيل في مباهجها ومتعها.

أحب الألوان المصرية، الألوان الزاهية والمزركشة تعكس ثقافتي وهويتي، وتظهر جمال الأرض التي نشأت فيها. ففي لوحاتي تنتشر صور فلاحات زمان في الغيطان، تتراقص أشعة الشمس على جلابيبهن الملونة، فتبرز جمالهن أكثر فأكثر".

دور المرأة في الفن

ترى عشم الله أنه: "في الفن، لا يوجد رجل أو امرأة، يوجد فنان موهوب. ومع ذلك، فإن النساء قد يحملن تجارب فريدة. نمتلك قدرة فريدة على الإحساس، وهذا يمكن أن يثري إبداعنا. التجارب الأنثوية، مثل الحمل والولادة، تضيف عمقًا لتجاربنا الفنية.

المرأة لديها القدرة على تحويل مشاعرها إلى فن، تستطيع أن تفجر ما لديها إبداعًا لا حدود له. لذلك، عندما أعمل على لوحاتي، أستمد الإلهام من تلك التجارب، وأعبر عنها.

لوحة للفنانة إيفلين عشم الله

بداية الرحلة الفنية واختيار دراسة الفنون

تشير ضيفتنا إلى أنها بدأت الرسم في سن صغيرة، مضيفةً: "كانت والدتي دائمًا تشجعني. كنت أرسم في سن صغيرة للغاية، قبل سن المدرسة. أذكر أنه عندما كنت في المدرسة، كان الرسم مادة مهمة ولها ثلاث حصص في الأسبوع. في إحدى المرات، طُلب منا رسم مولد سيدي إبراهيم الدسوقي، فرسمت ما رأيته، وأثار إعجاب معلمي الأستاذ رمضان، الذي أخذ الرسمة وعرضها على كل من في المدرسة. تلك اللحظة كانت بداية رحلتي.

غير أني أحسست منذ صغري أن هناك مسارًا ومصيرًا ينتظرني. كان والدي لديه مكتبة غنية تضم أعمال شكسبير والكتاب الروس والأدب الفرنسي وعلم النفس. وقتها، قررت أن أدرس إما الفنون الجميلة أو آداب الصحافة، لكن مجموعتي قادتني إلى الفنون الجميلة، وهي رغبتي الحقيقية. انتقالي إلى الإسكندرية كان نقطة تحول، رغم أن الفن لا يُدرس بشكل تقليدي، وهذه ليست وجهة نظر متطرفة، بل يتبناها الكثيرون.

كنت ممتلئة بالثقة، مُثقفة وملأى بما قرأته، مع تفاصيل مدينتي دسوق، وحبي للحياة، وطفولتي السعيدة، والجدل الثقافي من حولي، مع مشاهد الغيطان. دون أن أتحدث كثيرًا عن نفسي، كنت أشعر أنني (ممتلئة بالفن)، وما يعتمل داخلي هو مفهوم عميق عن الفن، يتجسد في كل ما مررت به. الفن هو نفسك وما يحيط بك، بما في ذلك الحنان والدعم من الآخرين! فالحنان هو دفء الحياة.

وكان لدي أيضًا أب وأم منفتحان للغاية، ولم يعارضا أي شيء أريده. ساعدتني تلك البيئة الداعمة على تطوير موهبتي، دعمهم واهتمامهم بفني كان دافعًا لي للاستمرار في الرسم ومن ثم دراسة الفنون في الجامعة.

بفضل كل تلك التجارب، أستطيع الآن أن أقول إن كل لوحة أقدمها هي قطعة من حياتي، تعكس مشاعري وتجربتي. بهذه الطريقة، تتداخل مشاعري وتجربتي في كل عمل أقدمه، أهدف دائمًا إلى إيصال رسالة من خلال أعمالي، رسالة تنقل جمال الحياة وتعكس الروح الإنسانية في كل كائن، كما أن الفنون جمعاء من شعر وأدب ونحت وعمارة وسينما كلها لحفظ تراث الشعوب وحفظ تاريخ الإنسانية.