أيام قليلة فقط تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية الأميركية، يصدر الكاتب الأميركي، بوب ودورد، كتابه الجديد تحت عنوان "حرب". صورة الغلاف تحمل صور ست شخصيات دولية، ثلاث منها أميركية، وهي جو بايدن، دونالد ترامب، وكامالا هاريس، في حين أن الصور الثلاث الأخرى هي لكل من فلاديمير بوتين، فولوديمير زيلنسكي، وبنيامين نتنياهو.
كان واضحًا جدًا، ومنذ الغلاف، أن الأمر يتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية تجاه أهم نزاعين مسلحين دوليين في عهد الرئيس بايدن، أوكرانيا وفلسطين. مطالعة الكتاب تجعلك تتأكد من أنه يأتي لدعم الحزب الديمقراطي في مواجهة الجمهوريين، من خلال إبراز رصانة سياستهم الخارجية، ونجاحهم في منع النزاعين المذكورين من التحوّل إلى حربين مفتوحتين تتورط فيهما الولايات المتحدة مباشرة.
هناك إشارة لا تخفى على أحد، يزيد الكاتب في تأكيدها في خاتمة الكتاب، وهو التوجس من ضياع هذه الحكمة الكبيرة، في صورة انقطاع حبل السلطة الديمقراطية بعد الانتخابات القادمة. نحن إذًا إزاء كتاب منخرط في الانتخابات، وموجه ضرورة إذًا، إلى الناخب الأميركي الذي لا يريد مزيدًا من التورط المباشر في النزاعات الدولية، لكن الحريص على المصالح الأميركية المباشرة من وراء هذه النزاعات، أي ببساطة الناخب الذي يريد أن تحقق الولايات المتحدة كل أهدافها، لكن بالمزج الحكيم بين الدبلوماسية والحرب، وليس بالحرب وحدها.
مطالعة كتاب "حرب" تجعلك تتأكد من أنه يأتي لدعم الحزب الديمقراطي في مواجهة الجمهوريين، من خلال إبراز رصانة سياستهم الخارجية. هو كتاب منخرط في الانتخابات، وموجه ضرورة إلى الناخب الأميركي
يبدأ الكتاب بأوكرانيا، ويكاد ينتهي بها، في حين استغرق الكاتب النصف الثاني من الكتاب وفصوله السبعة والسبعين، للصراع في فلسطين وامتداداته في المنطقة. من خلال تناول الكاتب للنزاعين، نتأكد بما لا يدع أي مجال للشك، في انتماء صاحبه للتوجهات الديمقراطية في السياسة الخارجية الأميركية. لنقل إن الرجل يعبر عن المصلحة الأميركية من وجهة نظر الحزب الديمقراطي: تورط مباشر أقل، لكن دون تأثير على التصميم بتحقيق المصالح. في مثال أوكرانيا، فإن بايدن لا يرغب في دخول الحلف الأطلسي مباشرة في الحرب، لكنه يفعل كل شيء من أجل أن يكون هذا الحلف هو المنتصر في النهاية.
في مثال غزة، يرغب التوجه الديمقراطي الذي يمثله بايدن وفريقه، والذي يعبر عنه الكاتب أيضًا، في رؤية نهاية حكم حماس، بل في القضاء عليها وعلى كل محور المقاومة، لكن عبر مسار يزاوج بين الأدوات العسكرية والأدوات الدبلوماسية، أي بإطالة أمد المواجهة وتسييلها، بما يضمن عدم جر الولايات المتحدة إلى مواجهة مباشرة مع أعدائها في المنطقة.
نحن إزاء عملية إقناع للناخب الأميركي من الطبقة الوسطى والعليا، هذا هو الكتاب. فيما عدا ذلك، لا جديد مطلقًا سوى تكرار كل خطاب الحرب الباردة تجاه الروس، وكل الدعاية الصهيونية تجاه الفلسطينيين. من منطلق المتابع الجدي لما يحدث في العالم، هذا الكتاب لا يستحق أن يقرأ أصلًا، لا محتوى ولا منهجًا. وعلى ذكر المنهج، فإن الأمر يتعلق بتناول درامي لمضامين حوارات أجراها فريق الكاتب. نعم، ذلك أن الكتاب هو ثمرة جهد فريق، وهذا ما لا يخفيه المؤلف. في الحقيقة ليس هذا الكتاب الوحيد لودورد، فقد نشر سابقًا بعض أكثر الكتب مبيعًا في الولايات المتحدة، وكان توقيتها جميعًا يخدم في الوقت نفسه حاجة سياسية داخلية، أي يؤدي وظيفة في خضم الصراع الداخلي، حتى عندما لا يقول ذلك صراحة.
يرغب التوجه الديمقراطي الذي يمثله بايدن وفريقه، وكاتب "حرب" أيضًا، في رؤية نهاية حكم حماس، بل في القضاء عليها وعلى كل محور المقاومة، لكن عبر مسار يزاوج بين الأدوات العسكرية والدبلوماسية، أي بإطالة أمد المواجهة وتسييلها
ما اهتم به المطالعون العرب في هذا الكتاب هو الصفحات القليلة التي تحدث فيها عن جولات، أنتوني بلينكن، في المنطقة العربية إبان هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ومنذ ذلك الوقت، إن بهدف رعاية مفاوضات إطلاق عدد من الأسرى لدى حماس، أو بهدف إقناع نتنياهو بإدخال بعض المساعدات للقطاع من حين لآخر. لكن هذا الجانب ثانوي جدًا في الكتاب، حتى وإن أكد لنا ما كنا نعرفه سابقًا من مواقف لدول عربية.
إن ما يحاول ودورد أن يقوله بطريقة غير مباشرة من خلال نماذج المقتطفات من حوارات زعماء هذه الدول مع بلينكن، وحتى مع بايدن، هو أن رؤيتهم للأمور تتطابق تمامًا مع رؤية الحزب الديمقراطي، أي مع السياسة الخارجية الأميركية: المزج بين الجانب الديلوماسي والحرب ضد المقاومة الفلسطينية، وإعطاء الأولوية للهدف الأقصى: اندماج إسرائيل في المنطقة عبر مسار طويل ينهي سيطرة حماس وكل محور المقاومة، تقدم فيه إسرائيل بعض الأثمان الشكلية التي لن تخدم في نهاية المسار إلا مصلحتها الإستراتيجية: البقاء والازدهار كدولة من دول المنطقة، تتشابك معها في منظومة أمنية واقتصادية مستقرة. يقدم ودورد، كامالا هاريس، كمرشحة ذات تجربة، مستوعبة ومنخرطة في نفس توجه بايدن، بما يعد بمواصلة نفس السياسات التي قادها هذا الأخير سواء تجاه روسيا أو تجاه حماس، في صورة فوزها بالانتخابات المقبلة.
ماذا يمكن للمطالع العربي أن يستنتج من مطالعة هذا الكتاب: أن الولايات المتحدة هي من يموّل الحرب على الفلسطينيين، وقد أكدت معطيات حديثة هذا الأمر، حيث بلغ تحمّل الولايات المتحدة ثلاثة أرباع تكاليف الحرب حتى الآن. سيستنتج أيضًا أن الولايات المتحدة لا تعارض مطلقًا التوجهات الاستراتيجية لنتنياهو، وأن الاختلاف الرئيسي بينها وبين بايدن هو في الوقت الذي يجب أن تستغرقه العمليات الحربية المباشرة، والفضاء الذي يجب أن تشغله الدبلوماسية من هذا الصراع.
ببساطة، أنهما لا يختلفان إلا حول طريقة قتلنا: قصفًا أو خنقًا. هذا هو السياق الذي جعل الأميركيين يضغطون في إدخال المساعدات الغذائية والطبية لسكان غزة، بل وحتى الغاية من الرصيف البحري الذي أنشأه الأميركيون على رصيف غزة. كان الهدف بكل بساطة هو جعل الحرب تستمر وتحقق أهدافها في القضاء على المقاومة بأريحية أكبر، بإحداث تشويش على الرأي العام العربي بين صور إلقاء المساعدات وصور القصف، حيث أن الأولى تساعد حتمًا على هضم الثانية. بطريقة أو بأخرى، فإن ذلك يساعد دولًا عربية على القيام بما هو مطلوب منها في الخطة الأميركية بعيدة المدى: تلافي الحرج أمام الرأي العام الداخلي بما يتيحه من تجاوز الضغوط التي قد تنفجر في أي لحظة داخل هذه الدول كنتاج للهمجية الإسرائيلية في غزة، في حين يكون التطبيع هو الجائزة الكبرى لإسرائيل في نهاية المطاف.
سيستنتج المطالع العربي من "حرب" أن الولايات المتحدة لا تعارض مطلقًا التوجهات الاستراتيجية لنتنياهو، وأن الخلاف على الوقت الذي تستغرقه العمليات الحربية المباشرة والفضاء الذي يجب أن تشغله الدبلوماسية من هذا الصراع
يبدو التطبيع بذلك حاجة "عربية" مثلما هو حاجة إسرائيلية. تحتاج دول هذا التطبيع أيضًا بالفعل، ذلك أنه يقلل بالنسبة إليها من مخاطر المستقبل. طالما بقي الصراع مفتوحًا ومتفجرًا، فإن هذه الدول ستخشى من انعكاساته على الرأي العام.
تبيّن هذه القراءة المصلحة الاستراتيجية بعيدة المدى بين إسرائيل وعدة أنظمة: هذا ما ينبغي أن يفسر سعي الأميركيين لبناء ورعاية منظومة أمنية واقتصادية ودبلوماسية بعيدة المدى في المنطقة تجمع بين إسرائيل وأصدقائها الحقيقيين في الجوار. أكثر من ذلك، فإن هؤلاء الأصدقاء لا يعرضون أنفسهم فقط، إنهم يعدون إسرائيل بجلب آخرين للتطبيع إذا ما أعربت عن تفهمها لظروفهم ومضت في طريق أقل مباشرة وتهورًا في الصراع الحالي.
ما ينبغي على المطالع العربي أيضًا أن يفهمه من خلال هذا الكتاب، هو أن الطوفان وسادته كانوا على وعي تام بما يحدث استراتيجيًا وتكتيكيًا عندما أطلقوا هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأن هذا الهجوم لم يكن موجهًا ضد إسرائيل فحسب (يعتبر الكاتب الهجوم عدوانًا خارجيًا "همجيًا ونازيًا" على إسرائيل)، بل ضد سياق كامل كان يفترض خنق قضية فلسطين، وكل المحور المساند لها، تحت رمال كثيفة تخنق الجميع ببطء وتفتح الطريق نهائيا نحو إسرائيل في مستقبل المنطقة، بتخطيط أميركي وإرادة "عربية" لا تشوبها شائبة. لقد كان الطوفان حكيمًا، هذا ما ينبغي الخروج به في نهاية مطالعة هذا الكتاب. من هذه الناحية على الأقل، لم تكن مطالعة الكتاب مجرد وقت ضائع.