يطرح مفهوم النخبة نفسه بإلحاح في مجالي العمل المؤسساتي والممارسة السياسية، وهو من المواضيع المهمة التي نالت اهتمام العديد من الباحثين في حقل العلوم الاجتماعية، وخصوصًا حقل علم السياسة.
كما أن الدراسات التي تناولت الحقل السياسي المغربي مند المرحلة الكولونيالية، احتل فيها موضوع النخبة الحيز المهم من خلال تحليل العلاقات الاجتماعية والسياسية، ومواقفها من إجراءات ترسيم السلطة وإرساء المؤسسات الدستورية.
احتل موضوع النخبة حيزًا هامًا في الدراسات المتناولة للحقل السياسي المغربي، كونه يطرح نفسه بإلحاح في مجالي العمل المؤسسي والسياسي
وسيزداد هذا الموضوع حضورًا في سياق التحولات التي عرفها المشهد السياسي في مجالنا المغاربي، بالنظر للانتظارات المجتمعية التي رافقت التحولات المجتمعية والسياسية، والتي توجت بتعديلات دستورية جاءت في ظل ثورات عربية مشتعلة، في محاولة لتأسيس ممارسة سياسية قادرة بدرجة ما على تجاوز سلبيات المراحل السابقة.
اقرأ/ي أيضًا: كيف عرى حراك الريف عورة النخبة السياسية في المغرب؟
يرجع كل ذلك لطبيعة المقتضيات الدستورية التي أكدت على توزيعٍ جديد للسلطة، بتعزيز مؤسسة الوزير الأول ارتقاءً لكونه رئيسًا للحكومة، وهو تطور هام على مستوى الممارسة، نظرًا للاختصاصات والصلاحيات التي أصبح يتمتع بها كرئيس للسلطة التنفيذية.
وهو مطلب عبرت عنه مذكرات الكتلة الديمقراطية سابقًا، من خلال طرحها عدة مطالب لتقوية مكانة الوزير الأول، وتوسيع صلاحياته التنفيذية، وهو أيضًا مطلب بقي محتشمًا مقارنة بالإصلاح الدستوري الجديد.
إذا كانت هذه المعطيات أحد العناوين البارزة في مسار التحولات المؤسساتية والتراكم القانوني الذي دشنته المملكة مند عقود، فإن التساؤلات لازالت تطرح بحدة حول الحكامة والشفافية والمردودية ومؤشرات التنمية في عديد الميادين، التي تهم المواطن في معيشه اليومي. هذه الفكرة يمكن اختزالها في النموذج الفكري (Paradigma) الديمقراطية والتنمية أو العلاقة الجدلية بينهما. وهما عنصران متلازمان في صيرورة بناء الدولة الوطنية الحديثة.
بل شكلت جوهر الحراك المجتمعي في أغلب بلدان الربيع العربي، مع التأكيد على أنه لا تنمية بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون تنمية، وهو ما سيزيد من صعوبة الأوضاع في أغلب البلدان مع الفرق والتباين فيما بينها طبعًا، فعنصر الزمن والتراكم المؤسساتي كما هو في المغرب، وتضافر الجهود، سيساعد النخب محليًا ومركزيًا في كسب هذا الرهان، والدفع نحو مزيد من التقدم والارتقاء بالمغرب في مؤشرات التنمية، بالطبع مع اعتماد سلم أولويات وتخطيط استراتيجي وتدبير جيد وتقييم دقيق للبرامج والمشاريع الهادفة.
ويعتبر هذا الأساس الذي يمكن أن تتنافس حوله النخب، والرهان الذي يجب أن تنخرط فيه الأحزاب السياسية، والأولوية التي يجب أن يتشبع بها كل الفاعلين، والمؤشر الذي يصبح شعارًا، ومقياس المحاسبة كثقافة ومرجعية تحكم الفعل المؤسساتي، بعيًدا عن المزايدات السياسية والمناورة التي لن تزيد إلا في هدر المزيد من الوقت والانزياح عن المسار الصحيح.
فإذا كان النص الدستوري بصفة عامة، لايطرح إشكالًا خاصة مع التراكم والانفتاح والتطورالدستوري، الذي تراكم مند أول وثيقة سنة 1962، وبغض النظر عن السجالات التي رافقت ميلاد الوثيقة وقبلها بقليل؛ فإن الإشكال يكمن في التنزيل والتفعيل على مستوى الممارسة، وهو أحد التحديات التي تجابه نخبنا السياسية بشكل أساسي، والمواطن كذلك باعتباره العنصر الأساس في هذه المعادلة، فانتظاراته تراكمت بشكل لافت وتجاوزت خطاب ووعود الفاعل السياسي أحيانًا.
غياب الإقناع وحضور عنصر عدم الثقة، سيعمق التحديات أمام النخبة السياسية المغربية التي عليها أن تعي طبيعة المرحلة السياسية الحالية
وفي علاقة النص بالممارسة دائمًا، يمكن الوقوف عند عدة أحداث ووقائع شكلت تحديات حقيقية أمام نخبنا السياسية مند تسعينيات القرن العشرين، الذي عرف حدثين دستوريين مهمين، منها الصراع حول القوانين الانتخابية ، وموضوع المرأة والمناصفة، وغيرهما، والتي تفسر كون الأزمة تتجسد في الممارسة أكثر من النص، وبمعنى آخر هل تمكنت النخبة السياسية من تفعيل كل المقتضيات الدستورية للنصوص السابقة بحمولاتها وأدوارها المؤسساتية؟ ثم إذا رجعنا إلى مضمون الوثيقة الأخيرة، مع استحضار كثافة النصوص وحمولتها المنفتحة على التأويل، فكيف ترجمت النخب هذه المقتضيات في هذا الزمن السياسي الدقيق؟ ثم هل النص يعرف قصورًا أم لا يستطيع الإجابة على تطور الممارسة في هذه الفترة الزمنية القصيرة؟ أم أن نخبتنا السياسية في حاجة إلى تأهيل يواكب التحديات والرهانات المطروحة؟
اقرأ/ي أيضًا: المغرب.. أحزابٌ أم قبائل؟
نعتقد أن ما يُعطي النص قيمته الحقيقية، هو ترجمة مضمونه وتطبيقه تطبيقًا سليمًا، لتعزيز مكانة المؤسسات الدستورية، واحترام منطق توزيع السلطة، وفصلها وتوازنها. وما لم يتم الاجتهاد في تأويل المقتضيات بما يخدم مسار البناء الديمقراطي للمؤسسات، فسيبقى الصراع بين النخب يحكمه الطابع الشخصاني لا البرامج، ولن يسمح بالمزيد من الدفع في تعزيز أسس الديمقراطية وثقة المواطن في السياسة والفاعلين والمؤسسات.
لهذا نعتقد أن خطاب التوصيف السياسي لقيادات الأحزاب وبعض النخب، بالزعامة في سياق مرحلي، هو وصف بأكثر من المرتبك، وهو خطاب يوحي بخلق اعتقاد بأنّ المرحلة "استتنائية" أو غير عادية، لاضفاء طابع الشرعية على التوصيف، وعلى الفعل أو الممارسة والمواقف، إذ في اعتقادنا الخاص أن شروط خلق الزعامات، يجب أن ترتبط بالمردودية والوفاء بالوعود الانتخابية، وتحقيق الانتظارات المجتمعية، وإعطاء دينامية حقيقية للمؤسسات والفعل المؤسساتي، وتفعيل آليات المحاسبة، وهو ما يمكن اختزاله في مشروعية الإنجاز في ظل التحديات التي يطرحها موضوع التنمية والديمقراطية.
لهذا فمحاولة خلق الاعتقاد بالزعامة كمفهوم ارتبط بشخصيات وُسمت في التاريخ بالنضال من أجل الاستقلال والتحرر، لم تعد شروطها متوفرة، وإذا رجعنا إلى بداية الاستقلال كمرحلة وُصفت من طرف الملك الراحل محمد الخامس بـ"مرحلة الجهاد الأكبر"، وارتبطت في شق آخر بزعامات سياسية كالراحلين علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني؛ فكلها راكمت رصيدًا نضاليًا منذ الاستعمار كمرحلة عصيبة.
إن الزمن السياسي واللحظة السياسية حاليًا، لم تعد تسمح بنفس الممارسة السابقة في التدبير، فالأمر يدعوا إلى إعطاء الأولوية لـ"النخب الجاهزة" والمؤهلة، وهو ما ينبغي أن تعمل عليها الأحزاب السياسية من خلال الاستقطاب وإفساح المجال لبروز قيادات جديدة محليًا ومركزيًا، فالنخبة الجاهزة تستطيع بمؤهلاتها التدبيرية وقدرتها على التسيير وامتلاك رؤية واقعية، تُمكّن من اختصار المسافة والاقتصاد في الزمن، وعليه الإجابة على متطلبات المجتمع الراهنة.
اللحظة السياسية حاليًا، لم تعد تسمح بنفس الممارسة السابقة في التدبير، فالأمر يدعوا إلى إعطاء الأولوية لـ"النخب الجاهزة" والمؤهلة
إن غياب الإقناع أحيانًا، وحضور عنصر عدم الثقة أحيانًا أخرى، سيعمق التحديات أمام النخبة السياسية التي عليها أن تعي جيدًا طبيعة المرحلة السياسية الدقيقة التي نعيشها اليوم. فإذا كان خطاب بعض الفاعلين السياسيين لم يرقَ إلى مستوى القبول عند شرائح مجتمعية واسعة، سواءً بحكم السياق أو بحكم مضمونه الشعبوي والمناسباتي، فإن أحزابنا السياسية عليها أن تراجع منظوماتها الداخلية، والتي تعكس ممارستها السياسية في تجلياتها المرتبطة بالتنشئة والاستقطاب والتنخيب.
اقرأ/ي أيضًا: المغرب.. التيارات الفكرية وإشكالية المشروع
وإذا رجعنا إلى المقتضيات القانونية لمغرب ما بعد حراك 20 شباط/فبراير، وعلى رأسها دستور 2011، الذي أسس لمرحلة جديدة من التدبير العمومي، وخاصة في اللامركزية، والذي ترجمته القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، ما رفع من وثيرة التحديات أمام النخب السياسية على المستوى المحلي، وخاصة إذا استحضرنا مؤشرين اثنين هما مفهومي القرب والإنجاز .
فالتدبير المحلي يجب أن يعتمد المؤشرات المهمة، وتشخيص المتطلبات لتحقيق عدالة مجالية، وهو عمل تقني بامتياز، ينبني على التواصل وإشراك الهيئات المدنية المحلية، والإنصات للمواطن باعتباره المستهدف الأول من كل المبادرات، وهو ما يجب أن يُشكّل النقاط المركزية في برامج عمل الجماعات الترابية، والتي تبقى النخب المحلية المسؤول الأساسي عن تنزيلها، ما يفرض على الأحزاب السياسية تقديم نخب جيدة وكفأة وواعية، من خلال برامج انتخابة واقعية، تراعي كل الأولويات السابقة في كل استحقاق انتخابي.
فإذا كان من الصعب على المركز الإجابة آنيًا عن كل المتطلبات المحلية في ظل ما سمي بأزمة "دولة الرعاية"، كما هو الأمر في التجربة الأوربية؛ فإن عجلة التنمية في أبعادها الشمولية، يجب أن تقودها نخب محلية لها من المؤهلات الذاتية والقدرات التواصلية، ما يدفع المواطن إلى تجديد الثقة في السياسة خطابًا وممارسة، وانخراطه بوعي ومسؤولية في كل المبادرات، وهو من التحديات التي تجابه العودة إلى المحلي في تجربتنا الحالية.
إن الممارسة المحلية يجب أن تجيب على المشاكل المتراكمة، والتي تتفاوت من مجال إلى آخر بفعل غياب استثمارات حقيقية في الموارد الذاتية، أو جلب استثمارات وخلق فرص للشغل لإشراك المواطن في مجاله المحلي، وتجاوز عديد المشاكل الناتجة عن عدم بناء تنمية حقيقية.
عجلة التنمية يجب أن تقودها نخبة محلية بقدرات تواصلية تدفع المواطن للثقة في السياسة وانخراطه بوعي ومسؤولية في كل المبادرات
ولعل هذا سيساعد في الانفتاح على نخب سياسية جديدة، أو الاستفادة من الخبرات المحلية، من خلال تفعيل حقيقي للمقاربة التشاركية، بعيدًا عن المزايدات والنزعة الحزبية الضيقة، التي لن تفيد في الإجابة على الرهانات التنموية، وطموح المواطن في العيش الكريم.
اقرأ/ي أيضًا: