يقول وليام فوكنر، الشاعر والروائي الأمريكي: "وكثيرًا ما جلستُ تحت المطر على أحد الأسطح الغريبة، أفكر في البيت الذي كان".
النوستالجيا هي الحنين إلى الماضي سواءً كان وطنًا أو منزلًا أو وضعًا اقتصاديًا واجتماعيًا أو حالةً ثقافية
هي النوستالجيا إذن، التي باتت تتسرب إلى كل شيء في يومنا، في السياسة وفي الإعلانات التجارية وحتى في خطابنا العادي اليومي. ولكن ما هي النوستالجيا؟ وما مصدر قوة تأثيرها على الوعي الجمعي للناس؟ و كيف استخدمها الساسة كما استخدمها المُعلنون عن سلعهم في البلدان المختلفة؟ وهل حققت نجاحًا بين الجماهير على اختلاف ثقافاتهم؟ كيف تحدث عنها علم النفس؟ كيف صوّرها التراث؟ هل هي إستراتيجية قديمة لإثبات أن الماضي كان دومًا أجمل من اليوم؟
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "T2 Trainspotting".. لعبة النوستالجيا
ما هي النوستالجيا؟
هي حالة توصف بأنها الرغبة الشديدة بالعودة إلى الماضي، سواء أكان هذا الماضي وطناً أو بيتًا أو وضعًا اجتماعيًا. ومن بين تعريفاتها المتعددة، على سبيل المثال، في إحدى الأطروحات بجامعة بازل، أنها "الحنين إلى الوطن".
وفي اليونانية، النوستالجيا من شقين، يعني أولهما الألم والثاني العودة إلى المنزل أو الهرب إلى الماضي. وفي التاريخ اعتبرت النوستالجيا مرضًا خطيرًا في حقبة الحرب الأهلية الأمريكية، حيث أُبلغ عن وقوع 2588 حالة من حالات الحنين المزمن إلى الوطن، بالإضافة إلى 13 حالة وفاة بسبب الاكتئاب المزمن المصاحب للحنين إلى الوطن، الذي كان أساسيًا في تدهور حالات المرضى والجرحى بين المتحاربين.
المال مقابل الذكريات السعيدة
نشرت مجلة نايتشر الأمريكية إحدى أهم التجارب التي أُجريت عن النوستالجيا، والتي أكدت في خلاصاتها أن هناك استعداد لدى البعض للتخلي عن بعض المال من أجل استعادة بعض الذكريات السعيدة بالنسبة إليه في الحاضر.
وطلب الباحث موريسيو ديلغادو وزملاؤه في جامعة روتجرز في نيوارك بولاية نيوجيرسي، من المتطوعين، استدعاء ذكرياتهم السعيدة والمحايدة، في حين تم فحص أدمغتهم باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. وقضى المشاركون وقتًا أطول في استذكار ذكريات سعيدة، وعندما فعلوا ذلك، كانت أنماط نشاطهم في المخ مشابهة لتلك التي تظهر في الأشخاص الذين يتلقون المال.
الدراسة التفصيلية التي تحدثت عنها المجلة، أكدت أن استعادة الذكريات السعيدة لسيرتنا الذاتية لها أهمية كبيرة في الرفاه العاطفي وفي الحماية من الاضطرابات النفسية. وفي نفس الوقت لاحظ الباحثون في الدراسة نمطًا سلوكيًا مرتبطًا بالاكتئاب عند شريحة ممن استدعتهم للخضوع للتجربة، كانوا أقل استعدادًا لخسارة المال من أجل الذكريات السعيدة، كما أن استعادة شعور طيّب لديهم، يكون بعد مجهود كبير من أجل شعور عابر بالسعادة. على أن الدراسة أكدت في نتائجها، أن النوستالجيا وسيلة فعالة لمواجهة الاضطرابات النفسية لا غنى عنها.
مفتاح سحري
استخدمها الساسة فنجحت معهم، واستخدمها أصحاب الإعلانات التجارية فنجحت معهم أيضًا. تقول ميليسا بايتون، في ورقة بحثية تحليلية للخطابات السياسية، إن النوستالجيا لطالما كانت وسيلة فعالة استخدمها الساسة لإقناع الجمهور، على سبيل المثال استخدمها دونالد ترامب كشعار لحملته الانتخابية: "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، كخطاب استدعائي من الماضي مُوجّه للحاضر. وقد سبقه في هذا التكتيك العديد من الرؤساء الأمريكيين، منهم رونالد ريغان، الذي قدّم نفسه باعتباره موجة للمجتمع الأمريكي التقليدي في مواجهة النسوية وموجة حقوق الإنسان.
استخدم عديد السياسيين النوستالجيا كإستراتيجية ترويجية في الانتخابات، كما يجري استخدامها على نطاق واسع في الإعلانات التجارية
أما في مجال الإعلانات التجارية، فإنّ لها مفعول السحر، ففي الولايات المتحدة، استغلت علامة "أولد نايفي" للبناطيل الجينز الضيقة" صوت فريقة "باك ستريت بويز" التي ازهردت في التسعينات، بأغنيتها الشهيرة "Everybody yeah" للدعاية لمنتجها.
اقرأ/ي أيضًا: تثيرنا وتستعبدنا.. إلى أين تقودنا الإعلانات التجارية؟
بينما استخدمت شركة بيبسي في إعلانها في نسخته الأمريكية، ألعاب الفيديو التي اشتهرت في التسعينات للترويج لـ"الكريستال بيبسي" وهو شراب صودا خال من الألوان، واستخدام آخر للنوستالجيا.
أما إعلان بيبسي في نسخته المصرية فيمكننا أن نلتقط بسهولة كيف استطاعت شركة بيبسي تسخير النوستالجيا كإحدى "ثيمات" الإعلان الأساسية بمناسبة مرور سبعين عامًا على تواجدها في مصر.
النوستالجيا في مصر.. حديث لا يفنى ويُستحدث من العدم
يذكر لنا أيمن عثمان في كتابه موسوعة تراث مصري، قصص عن النوستالجيا في الماضي، فيورد قصة مشاركة أحد الجمهور في باب مشاركات القراء بصحيفة صوت الأمة عام 1947، وكان مشاركة باسم "الشيخ صفوت" الذي كتب لمحرر الباب، يعبر عن حنينه للماضي حيث "كان الخير للركب" أي الخير كثيرًا ووافرًا، فكان ثمن الخروف لا يزيد عن ثمانين قرشًا، و"كانت النساء جواهر تعشن في أصدافها" والرجال لا يعرفون المقاهي "بل كانت مجالسهم في بيوتهم ومع أولادهم ونسائهم".
تعج مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بمنشورات النوستالجيا للماضي، وكلما مرت سنة تضاعفت موجة الحنين بسنة زيادة
والآن وبعد مرور عقود، تعج مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات النوستالجيا لسنين مضت، وكلما مرت سنة، تضاعفت موجة النوستالجيا بسنة زيادة. وهكذا وصولًا حتى للبرامج التلفزيونية التي باتت تستلهم من فكرة النوستالجيا لتكسب قاعدة جماهيرية أوسع.
اقرأ/ي أيضًا: