شكّلت هزيمة 67 الدافع الأكبر لقوى المقاومة الفلسطينية للتحرّر من كل القيود التي فرضتها دول الطوق على النشاط العسكري الفلسطيني، فالعمل الفدائي في قطاع غزة لم يكن وليد اللحظة بل راكم تجارب سابقة، والبيئة الحاضنة كانت أرضًا خصبة لانطلاقة جديدة، بسبب نزوح الآلاف من العائلات الفلسطينية بعد النكبة نحو القطاع، وظروف العوز والبؤس التي عاشوها في المخيمات، بالإضافة للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة التي لحقت سكان القطاع، هذه كلها كانت عوامل دفعت بالعمل الفدائي ليكون في أوجه بعد الاحتلال الإسرائيلي.
كان لمنظمة التحرير تواجد عسكري، بعد الـ 67 في قطاع غزة عن طريق جيش التحرير الفلسطيني، المتمثل في قوات عين جالوت
كان لمنظمة التحرير تواجد عسكري في القطاع عن طريق جيش التحرير الفلسطيني، المتمثل في قوات عين جالوت، طرح تصور أن الخزان البشري من جنود وضباط جيش التحرير المتواجدين في القطاع يجب الاستفادة منهم بالعمل المقاوم والنشاط الفدائي، وأفضل من يقوم بهذا الدور هم الضباط والعسكريون المحترفون. وبمبادرة من الضباط العامليين هناك وبدعم من قيادتهم في الخارج تم تشكيل ذراع عسكري لجيش التحرير الفلسطيني، يتولى القيام بحرب عصابات ضد الاحتلال، أطلقوا عليه اسم قوات التحرير الشعبية.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الرحيم جابر.. قصة فدائي
لعبت قوات التحرير الشعبية دورًا بارزًا، إذ أصبحت إحدى أهم التشكيلات الفدائية الرئيسة العاملة في قطاع غزة والعمود الفقري الذي يقود حرب العصابات، بالإضافة للكادر العسكري لقوات التحرير الشعبية فقد استقطبت خيرة شباب قطاع غزة، الذين التحقوا بها وكان على راس قيادة قوات التحرير الشعبية في غزة ضباط جيش التحرير الفلسطيني من بينهم حسين الخطيب وزياد الحسيني.
ولد زياد الحسيني في مدينة غزة من العام 1943، إذ التحق بمدارس غزة، وكان قد أنهى دراسته الثانوية فيها، ثم التحق بالكلية العسكرية للضباط الاحتياط العام 1964 في القاهرة، وتخرج برتبة ملازم ثان سنة 1966 والتحق بجيش التحرير الفلسطيني، قوات عين جالوت في القطاع، وخاص معارك الخامس من حزيران/يونيو عام 1967 في موقعه برفح.
وبعد النكسة شارك بتأسيس قوات التحرير الشعبية في القطاع مع رفاقه الضباط وأوكلت إليهم عدد من المهمات، كانت المهمة الأبرز هي جمع ما تركه الجيش المصري من أسلحة في غزة بعد الهزيمة، وكذلك تشكيل خلايا سرية للعمل الفدائي من عناصر جيش التحرير المتبقية في القطاع وتدريبها على خوض غمار حرب العصابات.
تولى زياد الحسيني منصب نائب قائد قوات التحرير الشعبية في القطاع وشمال سيناء وعمل على اتجاهين، الاستمرار في تنظيم الخلايا الفدائية وشن الهجمات العسكرية على قوات الاحتلال، تطورت الأحداث وتصاعدت وأصبح القطاع ساحة حرب حقيقية مما دفع بقوات الاحتلال إلى تكثيف العمل ضد خلايا تنظيم قوات التحرير الشعبية، إلى أن استطاعت أن تلحق بالتنظيم ضربة قوية نهاية 1968، وذلك بتحييد غالبية الخلايا واعتقال عناصرها.
عمل الشهيد زياد الحسيني في اتجاهين، الاستمرار في تنظيم الخلايا الفدائية وشن الهجمات العسكرية على قوات الاحتلال
لم تثن هذه الضربات زياد على مواصلة العمل الفدائي فقد أعاد تنظيم الخلايا من خلال الاعتماد على الطلبة والأفراد غير العسكريين بعدما كان يعتمد على عناصر الجيش النظامية بشكل أساسي، وبهذا أصبح أكثر انتشارًا من ناحية العدد والعدة، وأصبحت المهمة الأساسية هي إعادة تنشيطها لأخذ زمام المبادرة.
اقرأ/ي أيضًا: أبو صالح.. الحالم الذي أضاع الطريق
امتدت عمليات قوات التحرير الشعبية من شمال القطاع إلى سيناء، وتزايد حجمها ودقتها إلى أن وصلت بمعية باقي الفصائل إلى أخذ زمام المبادرة وفرض سيطرتها على القطاع، حيث أصبحت بعض المناطق ممنوعة على قوات الاحتلال ويصعب دخولها، إذ صرح وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها موشي ديان أن الاحتلال يحكم غزة في النهار والفدائيون يحكمونها في الليل.
في مطلع 1969، تولى زياد الحسيني منصب قائد قوات التحرير الشعبية في قطاع غزة وشمال سيناء، بعد أن توجه جميع الضباط وعلى رأسهم حسين الخطيب إلى الأردن بأمر من القيادة العليا، إلا أن زياد الحسيني أصر على البقاء في القطاع لمواجهة الاحتلال، فكان المخطّط والمشارك في العديد من العمليات التي أدمت قوات الاحتلال، وجعلته المطلوب رقم واحد من طرفهم.
من أبرز تلك العمليات عملية الشهيد أيوب فدعوس، فبعد معركة ضارية على مداخل مخيم جباليا بين مطاردي قوات التحرير الشعبية وقوات الاحتلال أدت إلى استشهاد أيوب فدعوس، أحد مقاتليها، صدرت الأوامر من قبل الإسرائيليين ألا يخرج بالجنازة غير النساء، ولكن زياد ورفاقه كان لهم كلام آخر، فتخفوا بزي النساء وخرجوا في الجنازة وباغتوا قوة الاحتلال التي تراقبها وأطلقوا النار عليها فقتلوا ثمانية من جنوده، وفي آب/أغسطس من العام 1970، توجه زياد ورفاقه إلى مبنى مدرسة في حي الزيتون وطلب من حارسها الذهاب إلى الإسرائيليين وإبلاغهم بوجوده ومجموعة من الفدائيين بداخل المدرسة، وعلى الفور توجهت قوة من الاحتلال إلى المدرسة لينصب لهم كمين محكم، أسفرت العملية على قتل أفراد القوة وعددهم 15 جنديًا وتدمير عرباتهم، تواصلت العمليات وأخذت أشكالًا مختلفة، ولم يكن التركيز على جنود الاحتلال فحسب، بل شملت المتعاونين وضباط المخابرات الإسرائيلية، إذ تمكن زياد في عملية أمنية أن يصل لمسؤول المخابرات في قطاع غزة أبو حاييم ويقتله، ويعلق رأسه على سياج أحد المزارع في جباليا.
امتدت عمليات قوات التحرير الشعبية من شمال قطاع غزة إلى سيناء، وتزايد حجمها ودقتها إلى أن وصلت إلى أخذ زمام المبادرة وفرض سيطرتها على القطاع
ولإرباك قوات العدو لم تقتصر العمليات على ضرب دوريات الاحتلال ونقاطه العسكرية بل تعدت ذلك لنسف خطوط إمداداته، كعملية نسف قطار السكة الحديد المحمل بالذخيرة والمؤن في سيناء، بالإضافة لعمليات زرع الألغام لاستهداف الدبابات الإسرائيلية حول خط الهدنة مع القطاع، لتصل تلك العمليات إلى ذروتها في عملية كمين بيت لاهيا، التي قتل فيها الحاكم العسكري لمنطقة جباليا، وسوف تتوج بالعملية النوعية التي تمثلت في اقتحام مبنى السرايا وقتل القائد العام للقوات الإسرائيلية في مدينة غزة.
اقرأ/ي أيضًا: حنا ميخائيل.. تاريخ لا يمضي
اشتعلت مناطق القطاع كلها، وامتدت العمليات إلى مخيمات المغازي والبريج والنصيرات والمنطقة الشرقية، بني سهيلا وعبسان وخزاعة ومدينة خان يونس ومدينة رفح، بالرغم من أن العمل الأساسي لقوات التحرير تركز في منطقة شمال غزة، وكان اسم زياد الحسيني محفورًا في كل شبر من القطاع.
أمام تصاعد العمليات العسكرية الجريئة، وتوجيه الضربات الموجعة والمؤلمة لهذا العدو، لجأت قوات الاحتلال إلى تكثيف عمليات الحصار على مدن القطاع فزادت من عمليات القمع وقامت بهدم البيوت وتدميرها، وترحيل أسر بكاملها إلى سيناء واعتقل الجیش الإسرائيلي آلاف المواطنين، وتعرضوا لممارسات قاسية في التحقيق بهدف الحصول منهم على اعترافات عن علاقتهم بالعمل الفدائي.
أثرت تلك الهجمة الشرسة على العمل الفدائي، فأدت إلى فقدان الكثير من الكوادر وقيادات الفدائيين ما بين اعتقال واغتيال، بالإضافة لسیطرة الجیش الإسرائيلي على كمیات كبیرة من أسلحة الفدائيين وكشف مخازنها، أحدث ذلك حالة ضغط وتضييق لهامش الحركة عند الفدائيين.
في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1971، أُعلن عن استشهاد الرائد زياد الحسيني في ظروف غامضة، تعددت الروايات فيما يتعلق بمقتله، فالرواية الإسرائيلية تحدثت عن موته إثر عملية انتحار مستغلة وجود جثته في بيت رئيس بلدية غزة آنذاك رشاد الشوا، إذ ادعت بأنه جاء لمنزله لكي يتوصل لاتفاقية مع السلطات الإسرائيلية التي كان يتوسط فيها رشاد الشوا، ليتم من خلالها السماح له و40 فدائيًا بالخروج من القطاع دون اعتقالهم، وعندما علم بفشل تلك المفاوضات أطلق النار على نفسه! لكن التقرير الطبي فنّد ذلك وأرجع سبب الوفاة إلى رصاصة دخلت من أعلى الأذن اليمنى وخرجت من الشق الأيسر للرأس، وهذا ما لا يمكن أن يفعله زياد بحكم أنه أيسر بحسب رفاقه والمقربين منه ومن يعرفونه. كما أن والدته ذكرت أنها قد شاهدت على جثمانه آثار التعذيب وتكبيل على معصميه؟ فيما ذهبت رواية ثانية إلى القول بأن الجيش الإسرائيلي بعد عمليات التمشيط الأخيرة والواسعة في قطاع غزة والتي أدت إلى استشهاد وأسر عدد كبير من عناصر وقيادة قوات التحرير الشعبية زاد الضغط على زياد وجعله وحيدًا في القطاع، وهذا ما اضطره للجوء إلى منزل رشاد الشوا من أجل الدعم بناء على أوامر من القائد العام في الأردن حسين الخطيب، لكن الإسرائيليين استدلوا عليه واستشهد في ظروف غامضة.
غير أن هناك رواية ثالثة تتحدث عن الموقف السلبي لزياد الحسيني من رشاد الشوا، بعد رفض راغب العلمي رئيس بلدية غزة مشروع ربط كهرباء القطاع بشبكة الكهرباء الإسرائيلية، وهذا ما خلق عليه ضغوطات متواصلة أجبرته على الاستقالة، واعتبر رشاد الشوا أن الفرصة قد حانت لتولي هذا المنصب. فطلب الشوا من زياد أن يبارك له هذا المنصب بصفته قائد لقوات التحرير، إلا أن زياد رفض ذلك، بل اعتبر أن موقف راغب العلمي هو الموقف الوطني الواضح، وهذا ما خلق له عداء مع رشاد الشوا، وتقول هذه الرواية بأن زياد قد تواجد قبل ثلاثة أيام من استشهاده في منزل شخص يعمل محاسبًا في البلدية التي يرأسها رشاد الشوا وكان على علاقة بقوات التحرير الشعبية وقد وضع منومًا في العصير الذي شربه زياد، ونقل ليلًا من قبل الموساد إلى منزل رشاد الشوا، وضعوه في القبو ورُبط بالحبال وتم رميه بالرصاص.
في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1971، أُعلن عن استشهاد الرائد زياد الحسيني في ظروف غامضة، وتعددت الروايات حول طريقة استشهاده
تظل ظروف استشهاد زياد الحسيني لغزًا محيرًا يكتفه الكثير من الغموض، فيما تبقى الروايات المتعددة تتقاطع في النقطة ذاتها وهي دور رشاد الشوا فيما حدث.
اقرأ/ي أيضًا: القصص التي ترويها فلسطين
نشر شفيق الحوت، ممثل منظمة التحرير في لبنان، مقالًا في جريدة المحرر اللبنانية سنة 1972 تحت عنوان "بداية ظهور القيادة الفلسطينية العميلة" تحدث فيه عن حادثة الاغتيال حيث قال: "الحقيقة أن ملامح ظهور القيادة البديلة قد بدأت تظهر للعيان، والعملية ليست مفاجأة لأحد ممن يرقب ويرصد التحركات الصهيونية، وخطة العمل الإسرائيلية ذات النفس الطويل. فبعد ضرب حركة المقاومة في قطاع غزة بالقسوة التي شهدناها خلال الست أشهر الماضية، وبعد تمرير عملية الانتخابات البلدية في الضفة الغربية، فقد كان من الطبيعي أن ينتقل العدو لجني الثمار السياسية المطلوبة من وراء هاتين العمليتين. ومن كان يتابع التحركات العربية الفلسطينية من خلال بعض الوجهاء والشخصيات المحلية، كان باستطاعته أن يراهن على شخصين اثنين من بين كل من وصلت أخبار تعاونهم مع العدو الأول هو الحاج رشاد الشوا والثاني هو الشيخ محمد علي الجعبري".
ليضيف: "وليس من ضرورة التذكير بأن قائد قوات التحرير الشعبية الملازم أول زياد الحسيني كان قد استشهد في منزل الحاج رشاد، وفي ظروف غامضة، كان من أطرف ما فيها ما سمي بالتحقيق مع الحاج رشاد حول ملابسات الحادث. وتلك الضجة المضحكة التي أثارها العدو على لسان بعض الوجهاء في الضفة الغربية والقدس وطالبها بكف التحقيق عن رئيس بلدية غزة".
يتضح أن عملية تصفية الشهيد زياد الحسيني أكبر من عملية اغتيال تطال قائد فلسطيني، إنما كانت تمهيدًا لتسويات معدة مسبقًا، وذلك بفرض قيادات محلية مستعدة للتعاون مع الاحتلال، وتقديم تصورات وفق مشاريعه، لذا كان العمل الفدائي العقبة الأكبر أمامهم، وما أشبه اليوم بالبارحة.
اقرأ/ي أيضًا: