"عبقري وملياردير ولعوب وفاعل خير"، بهذه الكلمات الأربعة أجابت شخصية توني ستارك على سؤال طرحه كابتن أميركا عمّا سيبقى من جوهره إذا ما خلع بزّة الرجل الحديدي التي يحارب بها من يعيثون بالأرض ضررًا، في فيلم "ذا أفينجرز". وربما كان ذلك مجرد ردّ مفحم جاء به كاتب السيناريو بما يتماشى مع شخصية ستارك، إلا أنه في الواقع ينطبق تمامًا على الصورة التي يرغب تنانين الرأسمالية بتصديرها عن أنفسهم، وإن لم تكن هناك بزّة حديدية، أو أعداء فضائيون.
طوال العقدين الأخيرين، كان لوادي السيليكون -وأذرعته الإعلامية- دائمًا فتى مدلل، تحتفي به الصحافة وتتابع إنجازاته وتركض وراء تصريحاته ولقاءاته التي تُترجم لقراءاتٍ مضمونة. بدأ ذلك بشكله الصريح الحالي مع بيل غيتس مطلع الألفية، الذي لطالما دغدغ مشاعر الإعلام بنشاطاته "الخيرية" وحرصه الدائم على البيئة بجانب أعماله التجارية بالطبع، إلا أن نجمه بدأ بالأفول بعد حوالي عقد من الزمن، وذلك أولًا لتراجع قدرة مايكروسوفت على الإبهار، وثانيًا لانكشاف حقيقة جنوحه نحو الأعمال الخيرية بهدف التهرب الضريبي، وأنه صاحب واحدة من أكبر البصمات الكربونية الفردية في العالم.
تزامن ذلك مع صعود نجمٍ شاب جديد سيغيّر وجه الإنترنت إلى الأبد، اسمه مارك زوكربيرغ، إذ جاء ذلك الشاب الصغير، الآتي من هارفارد، مع ابتكارات ستربط العالم ببعضه وتجعل مصطلح "القرية الصغيرة" واقعًا، لكنه لم يدم ذلك طويلًا، إذ تبخر كل انطباعٍ حسنٍ عنه مع فضيحة "كامبردج أناليتيكا" عام 2018؛ والتي كشفت عن بيع فيسبوك بياناتها لشركة كامبردج أناليتيكا بشكل غير مشروع لأغراض الدعاية السياسية، وانحدرت سمعته منذ ذلك الحين مع توالي الفضائح.
طوال العقدين الأخيرين، كان لوادي السيليكون -وأذرعته الإعلامية- دائمًا فتى مدلل، تحتفي به الصحافة وتتابع إنجازاته وتركض وراء تصريحاته ولقاءاته التي تُترجم لقراءاتٍ مضمونة.
ثم أتى أشهرهم، وهو من جمع أكبر قاعدة من المعجبين والكارهين في آنٍ واحد، وقد وصفته صحيفة الغارديان في يومٍ من الأيام بـ "آيرون مان العالم الحقيقي"، إيلون ماسك. لم ينجح ماسك باجتذاب إعلام وادي السيليكون و"وول ستريت" فحسب، بل أثار أيضًا، بفضل انخراطه في أبحاث الفضاء، اهتمام محبي العلوم الذين وصفوا طموحه بأنه "يتجاوز عنان السماء"، وقد دفع تنويع المجالات التي ينشط فيها ببعض المجلات الإدارية المرموقة، مثل هارفارد بزنس ريفيو، أن تحتفي بأسلوبه في الإدارة.
ومنذ حوالي عامين، نجح ماسك في حشد فئة جديدة من المُريدين هم "مُعادو الصحوة"، أو ببساطة اليمينيين، وذلك من خلال دفاعه المستميت عن "حرية التعبير". واستمر كذلك إلى أن فقأ بيديه الفقاعة التي صنعها واشترى تويتر، فكتم أصوات من انتقدوه واتخذ سلسلةً من القرارات العبثية التي حوّلت المنصة من واحدة من أكثر أدوات التأثير في العالم إلى تجمّع لخطاب الكراهية والأخبار الزائفة، وعبرة تُستخلص منها الدروس الإدارية.
لذا، احتاج وادي السيليكون وإعلامه ووسائل الإعلام التي تنقل وتترجم عنه دون تحكيم، إلى بطل جديد، فجاء سام ألتمان ليشغل هذا المنصب -حتى الآن- بكفاءة، فهو الرجل الذي يرأس مجلس إدارة شركة أوبن إيه آي، المالكة والمطوّرة لعدد من مشاريع الذكاء الاصطناعي، وعلى رأسها برنامج تشات جي بي الذي أدخل العالم في موجة من الذهول بدأت أعراضها بالانحسار للتو.
لم يتوقف الإعلام عن الحديث عن ألتمان منذ نهاية العام الماضي تقريبًا، إذ وُصف بالمبتكر وكاسر القيود وقائد الثورة الصناعية الرابعة التي ستغير وجه العالم. لكن ما يميز ألتمان عن سابقيه قد يكون إدراكه لدورة حياة البطل في وادي السيليكون، إذ أخذ دور القط والفأر معًا، فهو نفسه من قالت صحيفة نيويورك تايمز أنه جلس مع عدد من أعضاء الكونجرس ليقنعهم بضرورة تنظيم الذكاء الاصطناعي، كما سافر في جولة دعاية شخصية إلى عدد من عواصم العالم ليحثّ حكوماتها على الغرض نفسه.
يمكن قراءة اسم ألتمان في كل مرة تقريبًا ترد فيها أخبار عن ضرورة تنظيم الحكومات للذكاء الاصطناعي، وضرورة إبطاء تطوير هذه التقنيات -التي يقود طليعتها هو بنفسه- وما تنطوي عليها من مخاطر، في ما يعكس مفارقة تثير السخرية. إذ قال ألتمان للكونجرس في أيار/ مايو الماضي: "أعتقد أنه إذا حدث خطأ في هذه التقنية، وقد يحدث ذلك حقًا، يجب أن نعمل مع الحكومة لمنع حدوث ذلك."
ثم سرعان ما شرع في جولته حول العالم، لتتوقف تلك النغمة التصالحية مع الحكومات لفترة وجيزة عندما اصطدم بحجم القوانين المتوقعة والالتزامات المطلوبة منه في الاتحاد الأوروبي والتي تهدد بخروج تقنياته من السوق الأوروبية.
لم يتوقف الإعلام عن الحديث عن ألتمان منذ نهاية العام الماضي تقريبًا، إذ وُصف بالمبتكر وكاسر القيود وقائد الثورة الصناعية الرابعة التي ستغير وجه العالم. لكن ما يميز ألتمان عن سابقيه قد يكون إدراكه لدورة حياة البطل في وادي السيليكون، إذ أخذ دور القط والفأر معًا.
ومع ذلك، فقد تراجع لاحقًا وعاد لممارسة هوايته المفضلة، أي إخبار قادة العالم أنهم أملنا الوحيد في إنقاذنا من التكنولوجيا التي تطورها شركته، معززًا بذلك تلك النظرة القاتمة المتعلقة بتهديد الذكاء الاصطناعي لمستقبل البشرية، والتي أوضح مرارًا أنه قلق جدًا حيالها.
لكن يبقى الخط الفاصل بين كون هذا القلق مشروعًا أو شكلًا جديدًا للتسويق في منطقة رمادية يصعب تمييزها، هذا من جهة. أما من جهة أخرى، ففكرة وجود تقنية جديدة قوية لدرجة تجعلها قادرة على تهديد العالم بأسره لوحدها هي نوع من التبجّح المتواضع. وإن كان هذا في أسوأ الاحتمالات صحيحًا، فسيكون مصيدة للمستثمرين.
أما الأمر الأكثر وضوحًا من حجم القلق وشرعيته فهو أن رسائل ألتمان لا تزال متسقة، فهو متفائل للغاية، ولم يتوقف عن إخبار قادة العالم مرارًا وتكرارًا أنهم سينظّمون تقنياته الجديدة "بالغة الخطورة" بنجاح.
وفي جولته الأخيرة حول العالم، قال الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هيرتزوغ، لألتمان إن "هناك أيضًا العديد من المخاطر على الإنسانية وعلى استقلال البشر في المستقبل. يجب أن نتأكد من أن هذا التطور يستخدم لرفاهية البشرية. يمكنك أن ترى المزايا والعيوب، وأنت أول من ذكرها بصراحة وجرأة".
وهذا ليس صحيحًا بالطبع، إذ انتقد عددٌ لا يحصى من الشخصيات البارزة المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي بجرأة وصراحة لأكثر من نصف قرن. فالحالة التي يخلقها ألتمان هنا، بحسب وصف المستشار التسويقي ديفيد ديل، "أشبه بأن تصنع سيارةً خارقةً من غير مكابح، ومن ثمّ تسلّم المفاتيح لوالديك".
ولم يقتصر الأمر على تسريع تطوير تلك التقنيات ونشرها للاستخدام التجاري، ومن ثمّ تحذير الحكومات من عدم تنظيمها. فسام ألتمان، الذي نشر في شباط/فبراير الماضي مدونةً على موقع شركة أوبن إيه آي بعنوان "التخطيط للذكاء الاصطناعي العام وما بعده"، وفيها تحدث باستفاضة ووضوح عن خططه في تطوير ذكاء اصطناعي "خارق، يفوق ذكاء البشر في كل شيء"، أعلن من خلال مدونة أخرى نُشرت على موقع الشركة حديثًا، أن أوبن إيه آي ستخصص 20% من طاقتها الحوسبية لحل "مشكلة" مجاراة الذكاء الاصطناعي الخارق، الذي ستكرّس الـ 80% المتبقية في تطويره.
وكما جرت العادة، أخذت الصحافة، العربية والغربية على حد سواء، تحتفي بـ "مسؤولية" أوبن إيه آي في إدارة مخاطر الذكاء الاصطناعي، فيما يشبه الاحتفاء بإنجازات جيه روبرت أوبنهايمر بإنجازاته السلمية التي تلت "مشروع مانهاتن"، دون الأخذ بعين الاعتبار أنه كان "مدمّر العوالم" في نهاية المطاف.
جانبٌ آخر لم ينل نصيبه من الإعلام المحتفي بألتمان هو انقلاب أوبن إيه آي نفسها. فالشركة، التي تبلغ قيمتها السوقية اليوم حوالي 30 مليار دولار، وتعد مستثمريها بعائدات ستصل إلى المليار دولار بحلول عام 2024، هي شركة تهدف للربح، صراحة، وهي مغلقة المصادر (كما تعتبر نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي الخاصة بها من أكثر المشاريع سريّة في المجال)، وتربطها علاقة وثيقة مع مايكروسوفت، عملاقة التكنولوجيا؛ أي أنها تبدو عمومًا بمثابة حلم للشركات التقنية الناشئة. لكنها على عكس المنافسين الآخرين في مجال الذكاء الاصطناعي، كانت لها جذور مختلفة تمامًا.
في الواقع، فإن الشركة اليوم هي النقيض لكلّ ما وعدت به ذات يوم، فعندما أُطلقت أوبن إيه آي في عام 2015، كانت مشروعًا مفتوح المصادر -ومن هنا جاء اسمها. كما كانت مناهضة للربح بشكل صارم، بحجة أن النموذج المعتمد على الإيرادات من شأنه أن يضر بنزاهة التكنولوجيا.
إذ كتبت الشركة في بيانها الافتتاحي: "أوبن إيه آي هي شركة أبحاث ذكاء اصطناعي غير هادفة للربح. هدفنا هو تطوير الذكاء الرقمي بالطريقة التي من المرجح أن تفيد البشرية ككل، وغير مقيدة بالحاجة إلى تحقيق عائد مالي. ونظرًا لأن بحثنا خالٍ من الالتزامات المالية، يمكننا التركيز بشكلٍ أفضل على التأثير البشري الإيجابي"، لتأتي اليوم، وتسكب الوقود في محرك الخوف العالمي من تقنياتها.
شأنها شأن أي سوق مربح آخر، فإن صناعة التكنولوجيا مليئة بالتنازلات والتجاوزات الأخلاقية. لكن حقيقة أن شركة انقلبت 180 درجة لتتبع جرة الذهب بينما لا تزال تطلق نفس الادعاءات حول مساعيها الحثيثة لخدمة مصالح البشرية أمرٌ مقلق.
بعد سنة من تأسيس ألتمان شركته التي "ستركز على التأثير البشري الإيجابي" قال رجل الأعمال الشهير وصديق ألتمان المقرب وشريكه المؤسس، بيتر تيل، لصحيفة ذا نيويوركر في عام 2016 إن "مشروع سام للعالم مرتكزٌ على الأفكار لا الأشخاص"، ولم يكن ذلك مفهومًا تمامًا حينها، لكنه أصبح أكثر وضوحًا اليوم، إذ كتب موقع إنسايدر في أبريل الماضي أن "سام ألتمان مصمّمٌ على بناء اليوتوبيا الخاصة فيه، سواءً أردت ذلك أم لا"، وإلى حين ذلك، ربّما يظل على أمل ألّا يظهر نجم وادي السيليكون الجديد، وتغدو جنّته "بلا ناس".