تلك الصورة ستبقى، وستعيش بعد إسرائيل وبعد الجميع: وحيدًا، مصابًا، بين الركام ومن وسط أشلائه، يجلس بكل كبرياء الإيمان، ويضرب عدوه بآخر ما كان متاحًا لديه. كانت مجرد عصا، ولكنها قالت كل شيء. قبل أربعين عامًا، عندما كان الشاب اليافع يحيى يرتاد حلقات الشيخ ياسين، مستعجلًا بداية الكفاح، سأله الشيخ مستفزًا: وبماذا سنحاربهم؟ بالغبار، أجاب الشهيد. أي إيمان هذا الذي يبدأ بالغبار فيجعله سلاحًا، ويسلط، ابتداء به، على إسرائيل هزيمتها الوجودية الكبرى؟ بدأ يحيى بالغبار وانتهى بالعصا، وبينهما أهان أكبر مشروع شر عرفته البشرية. عصا موسى يلقيها يحيى، فتفتح لأمة كاملة طريقًا كان يخيل للجميع أنها مغلقة بإحكام: لا تحتاج لمواجهة إسرائيل سوى نفسك، أن تهبها بكرم، أن تضع سطرًا جديدًا تضيء به جزءًا من عتمة العالم، ثم تمضي عزيزًا.
عندما أطلق سيد الطوفان بركانه، قبل سنة من الآن، كان يعرف أن شوكًا كثيرًا سيوضع في الطريق، بل كان يعرف أنه لم يكن على الطريق، في الغالب، سوى الشوك. شوكنا نحن أولًا، ممزقة أوصالنا تحت كذبة السيادة ووهم الوطن الصغير، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ثم شوك العالم الذي جعل من الشر نموذجًا ومن الظلم أخلاقًا. لكن شوكنا كان الأكثر إيلامًا. أي أفكار جالت بخاطره في لحظاته الأخيرة، وعلى بعد أمتار منه جيش أم الدنيا الذي يلهو بالدبابات ويقرمش الشيبس؟ أي خواطر مرت برأسه الذي لن يلبث أن يتفجر وهو يستعرض كل ما مضى من خيانات ودماء وتضحيات وغربة وحصار؟ كانت الطائرة تطل عليه، تدعوه إلى المقام الأعلى، مقام الشهادة والسيادة، فمضى إليه مختارًا، بهيًا جميلًا قويًا عزيزًا. أي قوة تلك التي تجعلك تزرع في قلب غابة الأشواك قرنفلتك ثم تمضي؟ أي نظرة تلك التي رمق بها عدوه في الثانية الأخيرة وأي سهم ألقاه في نفس الوقت نحونا؟
هناك شيء كبير أيقظه الشهيد في أعماق هذه الأمة التي تعيد اكتشاف نفسها، وتهضم بشكل أفضل حقد العالم الحر عليها، وتآمره على إرادتها ووجودها
لا شيء يوازي الثأر للسادة سوى زوال الكيان. حسن نصر الله ورفاقه، ويحيى السنوار ورفاقه، لا يثأر لهم بضابط أو جندي أو وزير أو مطار. هذا من نوع الثأر الذي سينتقل كالأمانة إلى الجيل الذي سيأتي، وهذا مغزى شهادة السادة. لعله كان معنى تلك النظرة الأخيرة، كما كان معنى آخر جملة توجه بها إلينا نصر الله. بل إنه ذاك بالتأكيد. حتى تؤخذ الأمانة بحقها، سيتوجب إزالة أوهام كثيرة وشوك كثير. سيتوجب أن نعيد تعريف أنفسنا، أن ندرك بأننا لا نساوي من دون فلسطين شيئًا، أن ما عداها باطل، وأن حياتنا بعيدًا عن سبيل السادة زيف متراكم.
هناك شيء كبير أيقظه الشهيد في أعماق هذه الأمة التي تعيد اكتشاف نفسها، وتهضم بشكل أفضل حقد العالم الحر عليها، وتآمره على إرادتها ووجودها. في السابع العظيم، استفاق شيء لن يمكن إعادته هذه المرة للسبات، مهما كان الصمت مطبقًا، ومهما بدا من سكون على السطح المخادع. تعرف إسرائيل معنى ما حصل، ويعرف حلفاؤها أيضا ما سيكون لذلك من ارتدادات على العالم الذي أرادوه من دوننا. لقد جدد السابع إيماننا بما يجب، وهذا أول الطريق. ذلك أنه كان علينا باستمرار أن نبدأ من جديد، ولكن البداية التي فجرها السابع خارقة واستثناء.
تعيد الأمة تعريف القدوة والرمز ومفهوم السيد والسيادة. وعلى امتداد ملايين الكيلومترات المربعة، ومئات ملايين البشر، فإنها غدت تعرف أن سادتها هم أولئك الذين أنبتهم الظلم في أفقر البلاد وأصغرها. تعريف جديد للحجم والقوة يلغي كل ما سبق. ما القلة وما الكثرة؟ ما الفقر وما الغنى؟ ما السيادة وما الفخامة؟ ما العصا وما الدبابة؟ فلسطين ولبنان واليمن؟ من كان ينتظر أن يأتي كل شيء من هناك تحديدًا، وأن تلقي دول أخرى أضخم وأكبر وأكثر مالًا وأعز نفرًا في مهاوي النسيان والخذلان؟ ما المليون وما المائة؟ ما الفرد وما الجمع؟ ما السلة وما الذلة؟ ما مصرع الكريم وما حياة اللئيم؟ ما سبحة يحيى وما كعبة ابن سلمان؟ ما قرنفلة الشهيد وما شوك العبيد؟
وهؤلاء الذين صدقوا أنهم علينا سادة؟ ما يفعلون الآن، وما نفعل بهم، ولأي شيء هم هنا؟ انقلاب هنا وانتخاب هناك، ووهم مكانة عصف بها السادة والشهداء. أن تكون في أقصى الصحراء الكبرى، أو في سفح جبل بالمغرب، أو في قعر واد بالعراق وتعرف أن من يحق أن تقول له سيدي هو رجل أعزل يربط جراحه ويلقي عصاه، فهذا خطر عظيم على سادة الأوهام ودول الملح. استفاقة لنواة الأمة التي بقيت حية تحت كل ركام الظلم والظلام، بذرة صغيرة في أعماق الأرض أضحت اليوم تعرف ما عليها أن تفعل. مصرع الشهداء ورسالة الأنبياء.