كيف يمكننا أن نفسر هذا الصمت الذي أحاط باغتيال شيرين أبو عاقلة، وهي التي تحوز كل الصفات التي تدعي المنابر الليبيرالية الدفاع عنها؟ هل هناك نقص في الوعي البشري يمنع هذه المنابر والسلطات من التنديد بمقتلها؟
يمكننا أن نفهم كيف أن فضيحة كبرى كاغتيال شيرين أبو عاقلة يمكن أن تمر مرور الكرام، أمام أعين المنابر الصحافية اللبيرالية الغربية، كما لو أنها حدث عابر لم يحدث
أغلب الظن أن الوعي الذي يقود العالم اليوم، ويفرض عليه أجنداته السياسية والإنسانية هو وعي فاقد لجوهره، مثله مثل الوعي الصناعي، أو الوعي المستقل عن الأجسام. إنه وعي الزومبي الذي أعاد ديفيد شالمرز طرح مسألته في بدايات عقد التسعينيات من القرن الماضي، والتي تزامنت مع تطور علوم الكومبيوتر وتقنيات الروبوتات.
يعرّف شالمرز الزومبي "الفلسفي" بوصفه كائنًا موجودًا، ووجود هذا الكائن فرضية منطقية وطبيعية. فـ"الزومبي" هذا، هو كائن لا يمكن تمييزه عن البشر العاديين، ولكنه كائن فاقد تمامًا للوعي. وهذا التعريف هو تعريف "أنالوجي" ينطلق من إمكانية بناء جسم مماثل للجسم البشري عبر استخدام تقنيات علمية متطورة، كشرائح السيليكون التي يمكنها أن تحل محل أعصاب الدماغ، لتؤمّن تفاعلات عالية بين القدرات البيولوجية والفيزيائية التي تشكل الجسم البشري.
غير أن شالمرز يطرح شكوكًا عميقة في أن يتمكن هذا الجسم التقني من الاستحواذ على وعي بشري كاف ليكون بشريًا. فجسم كهذا، تشغّله الشرائح الذكية، يستطيع أن يعمل فيزيائيًا وأدائيًا كالجسم البشري، ويمكنه، إلى حد ما، تأدية أدوار بديهية لا تتطلب وعيًا عميقا ومعقدًا، كالأكل والسير والتغوط والقيادة والتنبه من الأشياء والعوائق المواجهة لنظام سيره وحركته، عبر إدراك تحسسي واستشعاري، لكن هذا الإدراك الاستشعاري، لا يخوله رغم ذلك، أن يتمتع بوعي حالات "إنسانية" معقدة كالمشاعر والحب والحزن والفرح على سبيل المثال.
وعلى هذا السمت "الأنالوجي" يمكننا أن نفهم كيف أن فضيحة كبرى كاغتيال شيرين أبو عاقلة يمكن أن تمر مرور الكرام، أمام أعين المنابر الصحافية اللبيرالية الغربية، كما لو أنها حدث عابر لم يحدث. فشيرين أبو عاقلة "عقلانيًا" كانت تتمتع بكل مزايا الكائن الذي تدعي هذه المنابر ومفوهوها الدفاع عنه، من باراك أوباما وزوجته إلى مدراء تحرير النيويورك تايمز وشبكة البي بي سي وغير هؤلاء من حملة الرماح الديمقراطيين والليبيراليين.
شيرين أبوعاقلة تمثل النموذج "المثال" الذي تتمثل به هذه النخب كضحية للدفاع عنها، وتطلق خطابها حول المساواة والجندرة والمرأة وحقوق الأقليات والملونين والصوابية السياسية، مستندة على شكواه وتظلمه. ما الذي تفتقر إليه شيرين أبو عاقلة، الضحية، من مميزات أدت إلى أن يتجاهلها "وعي" هذا الرهط من الممثلين الميديائيين؟ لا شيء إطلاقًا، إنها الضحية النموذجية، فهي امرأة، مسيحية، في منتصف العمر، تعمل كصحافية، تنقل الأخبار والوقائع منذ عقدين ونيف حول صراع "تاريخي" يعتبر بحق أكثر بقاع الصراعات سخونة في العالم.
ما الذي كان يجدر بشيرين أن تحوزه وتستحوذ عليه أكثر من هذه الصفات لكي يلتفت "الوعي" الليبيرالي المدافع عن حقوق النساء وحرية الرأي والصحافيين والأقليات والمقموعين وغير الممثلين؟ حتمًا، لا شي إضافيا. مع ذلك، لم يبصر هذا الوعي ما كان واضحًا للعيان.
ما يتبادر إلى أذهاننا، نحن المصعوقين من هكذا صمت وازدراء من تلك النخب، ليس أقل من وصمها بالكذب والمناورة. ظننا لبرهة أنهم يكذبون، وأن موقفهم المخزي هذا هو موقف سياسي بحت. أي أننا ظننا، ونحن المكلومين المحبطين، أن صمت هذا الرهط من كثيري الكلام وحراس الصوابية السياسية ومقيمي المحاكمات الأخلاقية والتمثيل الميديائي، هو موقف يعتريه الاعتراف بأحقية شيرين بالمناصرة ضمنًا، ولكنهم أحجموا عن السخط البديهي، وإدانة قتل أيقونة تتمتع بكل المزايا التي تؤهلها لأن يتضامنوا معها، لأنهم ينطلقون من موقع سياسي لا يخولهم الاعتراض على عملية اغتيالها.
هذا الصمت والامتناع عن إدانة قتل شيرين أبو عاقلة ليس صمتًا سياسيًا. بل إنه صمت في العقول. صمت يغلف مدارك رهط "الزومبيز" هؤلاء، الذين نعيش معهم ونتبنى ما يرددون من أفكار خلاصية ومصطلحات في الانعتاق
لكن هذا الصمت والامتناع عن الإدانة ليس صمتًا سياسيًا. بل إنه صمت في العقول. صمت يغلف مدارك رهط "الزومبيز" هؤلاء، الذين نعيش معهم ونتبنى ما يرددون من أفكار خلاصية ومصطلحات في الانعتاق. يتفوهون بهذا الكلام المعلوك المكرر والمتعالي، تمامًا كما يذهبون إلى دورات المياه لقضاء حاجة. صمت هؤلاء هو صمت الجسم الذي يتحرك آليًا وبرمجيًا وتلقينيًا. هؤلاء هم أجسام تنتجها التقنيات الميديائية، أجسام لها عقول اصطناعية تتلقف المنطق المبرمج وتتفاعل ضمن لائحة إجابات محددة. هؤلاء ليسوا "زومبيز" أنتجتهم أفلام الرعب في هوليوود، بل نماذج للكائنات "الجوهرانية" التي تعمل كشيفرة برامج الكومبيوتر. هؤلاء كائنات "زومبيز" لا تتمتع بـ"الوعي" الإنساني اللازم للإحساس والتمييز البديهيين، في وجوب ضم شيرين أبو عاقلة إلى لائحة الفئات التي يتنطحون للدفاع عنها، وإدانة قتلها. والمضحك المبكي في هذا الأمر أن هؤلاء "الزومبيز" يقودون العالم "الحر". لكنهم، على ما بات مفضوحًا، يفشلون في البديهي فكيف بمهمة إنقاذ العالم؟