في العام 2003, تلقى عالم الفيزياء الدكتور توني روثمان رسالة عبر الإيميل من ناشره تحمل أخبارًا مزعجة حول كتابٍ له كان يرتقب صدوره القريب. عنوان الكتاب "كل شيء نسبي" (Everything’s Relative)، يفنّد فيه المؤلّف عددًا من الأفكار المغلوطة الشائعة في تاريخ العلوم. وباعتبار محتوى هذا الكتاب وعنوانه، الذي يحيل كما هو واضح إلى نظرية النسبية عند ألبرت أينشتاين، فقد تمنّى روثمان على الناشر استخدام صورة عالم الفيزياء الأشهر على غلاف كتابه، إقرارًا بفضله واعترافًا رمزيًا بإلهامه وأثره.
لم يكن آينشتاين يعلم أن وصيّته بأن تؤول حقوقه الأدبية إلى الجامعة العبريّة ستجرّ على العالم كل هذه المتاعب
إلا أنّ الفريق القانوني في دار النشر قد حذّروا من مغبّة استخدام أيّة صورة لآينشتاين بدون إذن من الجامعة العبريّة في إسرائيل، وأنّ ذلك قد يجرّ على الدار ملاحقات قانونية شرسة وقاصمة ماليًا تتعلق بحقوق صورة هذا العالم وشهرته. بالنسبة إلى مؤلفنا روثمان، بدا الأمر سخيفًا وغير معقول، وهكذا كان ردّه على رسالة الناشر: "لو أن أصحاب الحقوق لاحقوا كل شخص استخدم صورة آينشتاين، فلن يكون لديهم متّسع للقيام بأي شيء آخر. ثم، هل أنت متأكد من أنهم يتمتعون بهذا الحق أصلًا؟".
لم يكن في وسع الناشر أن يوضّح لهذا العالم الفيزيائي المتحمّس لكتابه مدى التعقيد القانوني في مثل هذه المسائل التي كانت له معها تجارب مريرة سابقة، لكنّه اكتفى بالإشارة إلى أنّه في حالة صورة آينشتاين يتعامل مع "ضباع جشعة" يسيطرون على التركة المعنويّة لأحد أهم العلماء وأكثرهم أيقونية في العالم الحديث.
توفي ألبرت أينشتاين عام 1955 وكتب وصيّة أخيرة طويلة. في بندها الثالث عشر، أشار إلى أن جميع ما يملك من مسوّدات كتب، وحقوق نشر وعائدات مالية ونسب مبيعات وغيرها من الحقوق الماديّة، ستؤول، بعد وفاة سكرتيرته، هيلين دوكاس، وحفيدته مارغوت آينشتاين، إلى الجامعة العبرية في القدس، والتي كان آينشتاين أحد مؤسسيها عام 1918. تلك الوصيّة لم تتضمّن أي بندٍ حول الحق في استخدام اسمه أو صورته على الكتب أو المنتجات التجارية أو الدعايات وما أشبه ذلك، وهي ما بات اليوم يعرف باسم "حقوق الدعاية" أو "حقوق الشهرة" (publicity rights)، وهو مفهوم قانوني لم يكن معروفًا أصلًا حين وضع آينشتاين وصيته في خمسينات القرن العشرين ولم يخطر له على بال. إلا أن الوضع كان مختلفًا تمامًا بحلول العام 1982، وهو العام الذي آلت فيه تركة آينشتاين بأسرها إلى الجامعة العبرية، إذ تحوّلت حقوق الدعاية في تلك الفترة إلى موضوع خصب للتقاضي والملاحقة القانونية، وميدانًا واسعًا للتربّح اليسير الذي يدرّ مئات الملايين من الدولارات سنويًا.
ولم تنتظر الجامعة العبرية طويلًا حتى شرعت في فرض سيطرتها على اسم آينشتاين وصورته والاستخدام التجاري لشهرته، فترخص بذلك لمن تشاء بمقابل ماليّ كلٌّ حسب حجمه، وتلجأ إلى التقاضي ضدّ كل من يستخدم هذه الحقوق بدون اتفاق مسبق معها. فلو افترضنا مثلًا أن ناشرًا يرغب بطباعة صورة آينشتاين على غلاف أحد الكتب الجديدة، فإنه سيلزمه قبل ذلك أن يتقدّم بطلب إلى الجامعة، يجري تقييمه عبر لجنة خاصّة، توافق من طرفها على الطلب، ليحال بعدها إلى لجنة ماليّة للاتفاق على الرسوم. ويمكن للجنة بحسب تقديرها أن ترفض الطلب من أصله في حال وجدت أنّ الاستخدام غير ملائم ويمسّ بقيمة آينشتاين. وأية جهة تتجاوز هذه العملية أو تخالف قرار اللجنة، تكون عرضة للملاحقة القانونية.
وليس الأمر مقتصرًا على قطاع النشر والمعرفة، بل يتعدى ذلك إلى مختلف القطاعات والأنشطة، فكثيرًا ما وجدت شركات صغيرة أو كبيرة نفسها في ورطة قانونية ومالية، بسبب استخدام صورة لآينشتاين على قطعة ملابس أو فنجان قهوة أو دعاية في مجلة أو قناة تلفزيونية أو لعبة أطفال. حصل ذلك بالفعل مع شركة والت ديزني في العام 2005، حين اضطرت لدفع مبلغ 2.66 مليون دولار أمريكي لصالح الجامعة مقابل امتلاك الحق في استخدام اسم "Baby Einstein" على لعبة جديدة.
حاز آينشتاين على تقدير واسع وفريد في العالم الغربي في زمانه، معنويًا وماديًا، لأسباب عديدة موضوعية وغير موضوعية، وحين بدأ العمل في جامعة برينستون في ثلاثنيات القرن الماضي، عُرضت عليه مكافأة بقيمة 10،000 دولار (ما يعادل 180،000 دولار أمريكي اليوم)، وهو ومبلغ استكثره آينشتاين نفسه حينها، إذ كان العالم الوحيد الذي يتقاضى مبلغًا مماثلًا في الولايات المتحدة، وربما في العالم. اغتنى الرجل بما يكفي ويستحق في حياته، واستمرّت قيمة اسمه تتعاظم، بحساب الدولارات، حتى دخل الاسم قائمة "فوربس" للشخصيات التاريخية المتوفّاة الأكثر تحقيقًا للإيرادات، بواقع 12.5 مليون دولار سنويًا. أما المستفيد الحصري منذ بداية الثمانينات، فهو الجامعة العبرية، الجامعة البحثية الأولى في إسرائيل، والتي جنت من سيطرتها على الحقوق المعنوية لآينشتاين أكثر من 250 مليون دولار منذ العام 1982، وذلك وفق أشدّ التقديرات تواضعًا.
ورغم هذا النجاح القانوني للجامعة في الاستغلال الكامل لما تراه أنّه حقها الشرعي في التركة المعنوية لألبرت آينشتاين، إلا أنه نجاح يثير حنق الكثيرين، ممّن يرون فيه سلوكًا انتهازيًّا ما كان لأينشتاين نفسه بأن يرضى به أو يقرّ الجامعة عليه، هذا بالإضافات إلى الجدل القانوني الكبير حول شرعيّة مكتسبات الجامعة وفرط هيمنتها على إرث رجل يراه كثيرون أنّه قد بات ملكًا للإنسانية بأسرها، لاسيما بعد انقضاء هذا الزمن الطويل على وفاته.
"نباشو القبور الجدد"
على الرغم من التباين الكبير عالميًا، بل وحتى بين ولايةوأخرى في الولايات المتحدة حيث ترفع معظم القضايا، في القوانين الناظمة لمسألة حقوق الشهرة للشخص بعد موته، إلا أنّ الجامعة العبرية ظلت تعمل بلا كلل لاقتناص أية فرصة للاستفادة من اسم آينشتاين وشهرته، وترسيخ هيمنتها الحصرية على إرثه. ففي العام 2021، اضطرت الحكومة البريطانية مثلًا لدفع مبلغ للجامعة العبرية، تم الاتفاق على عدم الإفصاح عنه، مقابل استخدام صورة آينشتاين في حملة إعلانية وطنية على التلفاز وعبر الإنترنت. وهذا مثال واحد بارز وحسب من بين آلاف الأمثلة والطلبات التي ترد للجامعة سنويًا وتتعامل معها، وترصد له فريقًا متكاملًا يتولّى مهمّة التسويق لهذا الحقّ دوليًا والدفاع عنه إعلاميًا، إضافة إلى الفريق الإداري والقانوني والمالي الذي يتعامل مع الطلبات ويدرسها للموافقة عليها أو رفضها، وتقييم الرسوم المطلوبة وتحصيلها، ومتابعة أي مخالفات وانتهاكات وملاحقتها قانونيًا طلبًا للتعويضات.
لم تنتظر الجامعة العبرية طويلًا حتى شرعت في فرض سيطرتها على اسم آينشتاين وصورته والاستخدام التجاري لشهرته، فترخص بذلك لمن تشاء بمقابل ماليّ كلٌّ حسب حجم
أمام هذا القدر المفرط من الجشع والإصرار على الملكيّة الحصرية لاسم آينشتاين وشهرته، تزايدت حالة الاستياء بين قطاع واسع من المعنيين بالأمر على المستويات الحقوقي والثقافي والتجاري، بل إن عددًا من المثقفين والناشطين قد هاجموا سلوك الجامعة العبرية وفريقها القانوني، ووصف أحدهم المسؤولين عن ذلك بأنهم "نباشو قبور جدد"، وأنّهم مجرّد "قطّاع طرق لا يجدون من يردعهم".أما الجامعة فتصرّ على أنّ لديها الحق القانوني، ومعه الواجب الأخلاقي، لحماية آينشتاين وإرثه من أولئك الذين قد ينالون من قيمته الرمزية، عبر إقحام اسمه أو صورته في أنشطة أو أعمال لا تليق به. وتكتفي الجامعة عادة بهذا التسويغ العامّ وتحجم عن التواصل مع وسائل الإعلام للحديث عن مسألة شائكة بهذا الحجم الكبير والنطاق الواسع.
المحامي الذي أنشا الكار
في حياته، قاوم أينشتاين محاولات استغلال اسمه كأداة للإشهار والتكسّب، ولم ترق له يومًا مبادرات مؤسسات تعليمية وثقافية إلى إطلاق اسمه على الكليّات أو المكتبات أو المنح الدراسية. لكن عقب وفاة الرجل، تعاظمت هذه النزعة العالمية للتيمّن باسم الرجل، في قطاع التعليم والثقافة والنشر، كما في القطاعات التجارية والخدمات والدعاية. ولأنّ الحيّ أبقى من الميّت، ولأنّ أحدًا لم يكن ليحترم موقف الرجل في حياته من هذه الظاهرة، بدا أن كلّ شركة ومؤسسة في المعمورة تتكالب على اسم أينشتاين لما يتمتع به من معلوميّة رمزيّة عالية لم يحظ بها سوى عدد قليل من البشر.
إلا أنّ ثمّة تحوّلات قانونية سرعان ما ستطرأ على مسألة "حق الشهرة" الخاص بالموتى، أو بالأحرى حقّ الورثة في الاستثمار في شهرة موتاهم بشكل حصري. وقد دفع بهذه التحوّلات محامٍ مغمور طموح يدعى روجر ريتشمان، سيصبح في غضون سنوات عرابًا لمثل هذه القضايا، قبل أن تقتنع الجامعة العبريّة بالتعاون معه ليساعدها على بسط هذه الهيمنة على اسم أينشتاين وملاحقة كل من تسوّل له نفسه منازعتها عليها.
تفتّح بصر روجر ريتشمان مبكرًا على وجهي والديه، وعلى صورة أينشتاين الكبيرة المعلقة دومًا في غرفة الجلوس كأنها أيقونة الدار وملاكه الحارس. فقد كان آينشتاين صديقًا لوالد ريتشمان، إذ تعاونا معًا في ثلاثينات القرن العشرين في أعمال تطوعية لاستقبال العدد الضئيل من اللاجئين اليهود الذين سمحت لهم الولايات المتحدة بالقدوم إليها. توفّي والد ريتشمان بعد ثلاثة أشهر على رحيل رفيقه ومثله الأعلى، وظلت عائلة ريتشمان على تواصل مع ورثة آينشتاين والحلقة الضيقة من معارفه وحرّاس تركته.
كبر ريتشمان الابن، وأصبح محاميًا، وأسس مكتبًا مختصًا بحقوق الشركات التي تظهر علاماتها التجارية في الأفلام والبرامج التلفزيونية والمسلسلات. وفي أحد أيّام العام 1979، تلقى ريتشمان طلبًا غريبًا سيغيّر حياته إلى الأبد. فقد عرضت عليه أسرة ممثل أمريكي شهير ليكون وكيلًا حصريًا له. الغريب في هذا الطلب هو أن ذلك الممثل، دبليو سي فيلدز، كان قد توفّي منذ أكثر من ثلاثة عقود، وقد توسّمت أسرته في ريتشمان القدرة على الدفاع عن حقّها في رفض استخدام صورته على بوستر إعلاني للترويج لحفاضات للأطفال. الأغرب في تلك الفترة هو أن الحقوق الدعائية للشخصيات الشهيرة لم تكن تنتقل لورثتهم بعد الوفاة، وقد بدا الجميع على قناعة بأن القانون لن يقف في صفّ أسرة فيلدز التي كانت تسعى لأن تحول على الأقل دون الاستخدام غير اللائق على لصورته.
عكف ريتشمان على دراسة الحالة والسوابق القانونية المماثلة، وتبين له أنّ ثمة دعوى رفعها نجل بيلا لوغوسي، الممثل الهنغاري الأمريكي المعروف بأنه أوّل من جسّد شخصية دراكولا في عمل سينمائي، والتي ادّعى فيها بأنه هو المالك لحقوق صور أبيه، وليس شركة الإنتاج. وقد كسب ابن لوغوسي الدعوى التي رفعها بالتعاون مع زوجة أبيه، قبل أن تنقض المحكمة العليا الحكم على أساس عدم وجود ما يثبت أن الأب قد باع حقوق صوره لاستخدامها في مجال الإشهار التجاري أثناء حياته. وقد استخلص ريتشمان من هذه القضيّة أن ورثة الشخصية الشهيرة التي باعت حقوق صورها أثناء حياتها مخوّلون إذن بالمطالبة بحقوق الشهرة الخاصة بها بعد وفاتها.
اقرأ: أهم الحقائق عن بيلا لوغوسي.. أشهر "دراكولا" في تاريخ هوليوود
لاحت فرصة لاختبار هذه الفرضية بعد بضعة أشهر، حين رفع ريتشمان دعوى ضد شركة البريد الأمريكي التي كانت تخطط لاستخدام صورة فيلدزر في طابع تكريمي في الذكرى المئة لميلاد الممثل الراحل، وقد كسب ريتشمان القضيّة، واضطرت شركة البريد الأمريكي لدفع رسوم لاستخدام الصورة لورثة فيلدز، وهو ما مثّل سابقة سيكون لها ما بعدها في عالم المشاهير الموتى، أو فلنقل عالم ورثتهم، وفي حياة ريتشمان أيضًا وصعود نجمه بين هذه الدوائر، بعد أن قام عمليًا بابتكار مفهوم قانوني أسال لعاب الناس في هوليوود، فصار المشاهير يخططون للتكسّب بعد موتهم كما يخططون له في حياتهم، وبالأخص في ولاية كاليفورنيا، حيث أقرّ في العام 1985 قانونٌ يعرف باسم "قانون حقوق المشاهير"، والذي يضمن حق ورثتهم في الاستثمار بشهرتهم بعد الوفاة. وبعد نجاحه في عدد من القضايا المماثلة التي بادر ريتشمان في إغراء ذوي بعض المشاهير بجدواها المالية، ألفى المحامي الجشع أن كلمة السر في غنيمته المادية والمعنوية الكبرى هي "ألبرت آينشتاين".
بعد إقرار قانون حقوق المشاهير، شرع ريتشمان في جمع كلّ قصاصة أو مقطع دعائي ظهرت فيه صورة آينشتاين، وأرسلها جميعًا إلى الشخص الموكل بتنفيذ وصية العالم الشهير، ويدعى أوتو نيثان، مرفقًا معها رسالة يعرض فيها على الورثة الدفاع عن حقهم في "وضع حدّ لهذا النوع من العبث باسم العالم الراحل". بعث نيثان بتلك الرسالة إلى الجامعة العبرية في القدس، والتي وجدت في ذلك مغنمًا ضخمًا سيضمن لها بسط سيطرتها على اسم آينشتاين وشهرته، متسلّحة بالوصيّة التي كتبها الرجل قبل وفاته. وفي منتصف العام 1985، عينت الجامعة ريتشمان ليكون "الوكيل الحصري العالمي" لآينشتاين، على حدّ الوصف الذي اختاره ريتشمان هذا لنفسه. أما آخرون، فقد وصفوه بالوحش الانتهازي، كما وصفته يوميّة برينستون يومًا بأنه مجرّد "كلب حراسة مرعب للجامعة العبرية في القدس".
الصورة المحرّمة لآينشتاين
نجحت الجامعة العبريّة في خلق حالة من الرعب واليقظة لدى الشركات والهيئات والمصالح التجارية، وفرض حظر عمليّ على الاستفادة من شهرة آينشتاين بدون إذن منها واتفاق رسميّ معها تضمن فيها نسبة من التعويضات وتتأكد من "سلامة" استخدام الاسم والصورة. وثمّة محرّمات ثلاثة عامّة أقرها ريتشمان بالاتفاق مع الجامعة وهي: التدخين، والكحول، والقمار. فلا يمكن الاستفادة من صورة آينشتاين أو اسمه في الترويج لمنتجات الشركات في هذه القطاعات الثلاثة. وثمّة حرمة رابعة أشدّ عجبًا، تتعلّق بهذه الصورة الخالدة لألبرت آينشتاين.
التقطت هذه الصورة الشهيرة لآينشتاين عام 1951، في عيد ميلاده الثاني بعد السبعين، في جامعة برينستون، حيث تسلل عدد من المراسلين والمصوّرين، أملًا في التقاط صورة للرجل الذي لطالما أبغض التعامل معه كمادة للاستهلاك الإعلامي. أثناء ذلك الحفل الصغير، نده أحد المصورين على آينشتاين فجأة، وقال له: "أيها البروفيسور، ابتسامة واحدة لعيد الميلاد، أرجوك". وما كان من آينشتاين إلا أن مدّ لسانه أمام ذلك المصوّر، في لحظة انزعاج أو استسلام، مانحًا المصور آرثر ساسي فرصة لالتقاط واحدة من أهمّ الصور على الإطلاق وأشهرها في القرن العشرين. إلا أن الجامعة العبريّة، وعرّاب حقوق الشهرة ريتشمان (والتي تعني الرجل الغني!) قرروا رفض أي طلب لاستخدام هذه الصورة دعائيًا، واستمرّ هذا الفيتو لسنوات عديدة، قبل أن تتراجع عنه الجامعة خطوة واحدة فقط، بمعنى أنّها قد تتنازل وتنظر في كل طلبٍ على حدة، وتقيّم إن كان استخدام الصورة لائقًا أو غير لائق.
وبالنظر إلى مركزية آينشتاين وحضوره الطاغي في العصر الحديث كأحد أهمّ الشخصيات العلمية وأكثرها تأثيرًا، تعاظمت القيمة التسويقية في صوره واسمه، وتعاظم مع ذلك بطبيعة الحال شره الجامعة العبريّة متجاوزًا كل الحدود. في أحد الأيام من العام 1997، وإبّان صعود شركة آبل في عالم التقنية، تلقى ريتشمان طلبًا من إدارة الشركة لاستخدام صورة لآينشتاين للتسويق لحواسيب آبل الرائدة، تحت شعار "Think Different". طلب ريتشمان مبلغ 600 ألف دولار أمريكي (ما يعادل أكثر من مليون دولار أمريكي اليوم)، وحين اعترض ستيف جوبز على المبلغ وطالب بالتفاوض بشأنه، أخبره ريتشمان أنّ في العالم "آينشتاين واحدًا فقط، وإن استكثرتم المبلغ فربما عليكم التفكير باستخدام صورة ماي ويست"، وماي ويست هذه راقصة وممثلة إغراء أمريكية معروفة بتعاونها مع الشركات المنتجة للملابس الداخلية. رضخ جوبز في نهاية المطاف، ودفعت شركته المبلغ المطلوب كاملًا.
أمعنت الجامعة العبرية في غيّها هذا بالتعاون مع ريتشمان وفريق واسع من المحامين، ولاحقوا كل شاردة ممّا يرون أن القانون يكفله لهم. وذهبت الجامعة في ذلك بعيدًا حتى أنّها راحت تحاول السيطرة على الاسم نفسه، بمعنى أنها بدأت تلاحق حتى تلك الشركات التي يتقاطع أسماء مؤسسيها أو مالكيها مع اسم آينشتاين بالصدفة، حتى لو لم تكن الشركة تتقصّد التكسّب من اسم آينشتاين والاستفادة منه، ولا علاقة لمنتجاتها أصلًا بالفيزياء والعلم. فقد رفعت الجامعة دعوى ضد شركة لإنتاج خبز البيغل، وهي "شركة آينشتاين وإخوانه للبيغل" (Einstein Bros Bagel)، رغم أن آينشتاين هنا يعود على اسم عائلة المالكين، إلا أن الجامعة وبتشجيع من ريتشمان، لاحقت الشركة وطالبتها بدفع التعويضات أو تغيير الاسم.
هل تنتفض الشركات؟
في تشرين الثاني/نوفمبر 2009، نشرت شركة جنرال موتورز الأمريكية إعلانًا في مجلة "People"، يظهر فيه وجه آينشتاين مركبًا على جسد مفتول العضلات، وفوقها جملة تقول "الأفكار مثيرة أيضًا" (Ideas are sexy too). اعترضت الجامعة العبرية بالطبع، وأصدرت بيانًا شديدة اللهجة جاء فيه أن تركيب صورة آينشتاين على صورة ذلك الجسد المكشوف فيه إساءة لآينشتاين وإساءة للجامعة "التي لطالما كانت الحارس الأمين لصورة آينشتاين واسمه".
استعدت الجامعة لخوض معركة قضائية غير سهلة ضد خصم كبير الإمكانات مثل جنرال موتورز، وعرضت القضية أماما المحكمة عام 2012. استعدّت جنرال موتورز للمعركة جيدًا، رغبة منها ربما في كسر تلك الحلقة من الهيمنة الاعتباطية للجامعة العبرية على كل ما يتعلق بآينشتاين، فجادل فريقها القانوني بأن آينشتاين لم ينصّ في وصيته على نقل حقوق الشهرة والدعاية إلى ورثته، لأن ذلك الحق لم يكن قائمًا أصلًا وقت وفاته. أما الجامعة، فأصرت كعادتها على أنّ آينشتاين لو علم بوجود مثل هذا الحق وقت وفاته، لأصر على نقله إلى الورثة القانونيين.
شابت القضية الكثير من التعقيدات التي لا يتسع المقام لذكرها، تتعلق بقوانين كلّ ولاية وتفضيل القاضي على النظر في القضيّة بالاعتماد على قانون ولاية نيوجيرسي، أين توفي آينشتاين، على قانون كاليفورنيا، حيث رفعت الجامعة القضيّة. فالقانون في كاليفورنيا ينص على حماية الحق في الشهرة لأجل محدود، ينتهي بعد انقضاء 70 عامًا على وفاة الشخص، بينما لا يحدد قانون نيوجيرسي مدّة لذلك. لكنّ القاضي توصل في النهاية إلى حكمه الأخير، والذي أوضح فيه رأيه بشأن الملكية الإنسانية العامّة لآينشتاين، بعد انقضاء ستة عقود على وفاته وتحوّله إلى عنصر راسخ الحضور في الإرث الثقافي الكوني، وما يعنيه ذلك في حق البشريّة في استخدام اسم الرجل وشهرته، حتى في إعلانات قد يراها البعض غير لائقة.
لكنّ الأمر لم ينتهِ عند هذا الحكم، واستأنفت الجامعة ضدّه، إلى أن توصّل الطرفان إلى تسوية مفاجئة لم يعلن عن تفاصيلها، وما تزال الجامعة تلاحق البشر بادعاء حقها الأزلي في كل ما يتعلّق بآينشتاين، في حين تتزايد المطالبات داخل الولايات المتحدة بتدخّل الكونغرس الأمريكي لإقرار قانون فدرالي عامّ ينظّم المسألة ويضع حدًا لتغوّل الجامعة على الحقّ في آينشتاين واحتلال هذه المساحة المعنويّة بشكل مطلق.
بالنظر إلى مركزية آينشتاين وحضوره الطاغي في العصر الحديث كأحد أهمّ الشخصيات العلمية وأكثرها تأثيرًا، تعاظمت القيمة التسويقية في صوره واسمه، وتعاظم مع ذلك بطبيعة الحال شره الجامعة العبريّة متجاوزًا كل الحدود
وحتى ذلك الحين، ستستمر الجامعة العبريّة في إسرائيل في التكسّب من اسم آينشتاين، يعضدها في ذلك سمعتها العالمية القويّة وسجلّ طويل من النجاحات القانونية التي تذكّر الجميع بأن عيونها مفتّحة على كل محاولة للاستفادة المجّانية من آينشتاين، اسمه وصوره وحتى المقتبسات من كلامه وكتبه، بحقّ أو بدونه، ما دام أنّها الجامعة العبريّة، وما دامت تحفظ إرث اليهوديّ الأكثر شهرة في العالم.
*هذه المادّة مترجمة بقدرٍ من التصرّف عن مقال للكاتب الإنجليزي سيمون باركن، نشرته الغارديان البريطانية في 17 أيار/مايو 2022. وقد ذكر باركن في ختام مقاله، بأن الصحيفة قد اضطرت للتواصل مع الجامعة العبريّة قبل نشر المقال لتأكيد بعض المعلومات الواردة فيه، وقد ردّت الجامعة عبر المتحدثة باسمها بأنها "تحتفظ بحقها في الدفاع عن كامل حقوقها في حال شكّل المقال أي انتهاك للاتفاقيات التجارية، أو سمعة الجامعة، أو سمعة الدكتور ألبرت آينشتاين"!