بعد المرور بـ"أصل الي بنا مصر كان حلواني"، في مطلع "مصر يما يا بهية" للشيخ إمام عيسى، كلمات أحمد فؤاد نجم، يمكن إضافة صيغة ما من صيغ التوكيد والتثنية على الموال المعني بشأن رصانته التاريخية. إذ لا تحضر سيرة الحلواني إلا بدورها إشارة إلى جوهر الصقلي وأدواره في التأسيس لمصر الفاطمية أو للنسخة الأعتى والأكثر ازدهارًا ووضوحًا من الفاطمية بعد أن استقرت قاهريًا. التي أسست بدورها لبواكير ما يمكن تسميته السياسة المحتكرة من التنظيم السياسي المهيمن والأقوى في مصر، أي الدولة ذاتها على تباينات أجهزتها، لكن بشكل أدق المجموعة الحاكمة داخل دولة التنظيم وتنظيم الدولة هذه. وهو ما أدركه كثيرون لاحقًا، ليس محمد علي باشا الكبير والراحل جمال عبد الناصر "أبو خالد" وحدهما في هذا المضمار وإن كانا أبرز الفاهمين وكبار المطورين له.
مجازفة كبرى وتعسف تأريخي يحضران عبر إطلاق عنوان جمهورية الضباط الأحرار، على التنظيم السياسي للدولة في مصر اليوم وإن لم تتبدل مفاعيلها وآليات فعاليتها كثيرًا. لكن الكثير من أوتوبياتها وهويتها رفقة رؤيتها لقضاياها هي وقضايا محيطها قد اختلت بفعل هزات الانفتاح الساداتي والنيوليبرالية المباركاتية
لكن حديث البدايات لا يكفل استكمال درس الحاضر، ولا محاولة استفهام المستقبل المنظور ومساءلته إن لم يستتبعه تدقيق ما تراكم على تلك البدايات. وهذا الحال مع محاولة التأصيل لآليات عمل السلطة الحقيقية في مصر اليوم، بما هي سلطة العسكر على السياسة والعسكر معًا، لكن قبلهما، المستويات المتباينة من سيطرة العسكر على السوق ومن خلفه الاقتصاد منذ أن عرف التنظيم السياسي الموسع والحديث للدولة المصرية ما يمكن تسميته جمهورية الضباط الأحرار ومن ضمنها وزارة الإنتاج الحربي وممتلكاتها ومشاريعها.
اقرا/ي أيضًا: تنظيم الدولة المصرية
يأتي من باب المجازفة والتعسف التاريخي إطلاق ذات العنوان، أي جمهورية الضباط الأحرار، على التنظيم السياسي للدولة في مصر اليوم وإن لم تتبدل مفاعيلها وآليات فعاليتها كثيرًا. لكن الكثير من أوتوبياتها وهويتها رفقة رؤيتها لقضاياها هي وقضايا محيطها قد اختلت بفعل هزات الانفتاح الساداتي والنيوليبرالية المباركاتية، خاصة الخصخصة والاستغناء عن قطاعات إنتاجية عامة بحالها، ليس لصالح الخصخصة فقط بل شطبها أساسًا أيضًا. حتى أن الجمهورية نفسها، أي التنظيم السياسي للدولة أمسى تنظيمًا للداخلية وأمناء الشرطة أكثر منه للعسكر والضباط عند القطاف المبكر لثمار المباركية السامة وما طرحته من مغالبات داخل الدولة أودت بها إلى الهلاك أخيرًا، بعوامل الدفع الذاتي المتفجر من داخل تنظيم الدولة رفقة الجو الميداني التراكمي الذي أتم اصطفافه في ثورة 25 يناير.
فيما يبدو وزير الحرب وضابط استخباراتها السابق، والرئيس الحالي للدولة المصرية عبد الفتاح السيسي وفيًا تمام الوفاء، في ظل تغييب الموت للعراب الأكبر لتشكيلة اللعبة السياسية في الدولة المصرية اليوم الفريق محمد العصار الذي يقال بشكل يعوزه الجزم أنه قضى بتبعات كوفيد 19، لهندسة العصار وإرثه الذي لا بوادر على مناقضته أو إعادة التفكير في مستويات نجاعته لصالح المجموعة الحاكمة. هذا على الأقل في المرحلة القائمة في مصر اليوم.
لماذا التنكر لهندسة العصار؟ قد يكون لسان حال السيسي وفريقه ومن خلفهم الأن. إذ استطاع العصار الترويج للمجلس العسكري والفترة الانتقالية في أعقاب ثورة يناير، خارجيًا وداخليًا، كما هو الحال في الترويج دوليًا للانقلاب العسكري الذي نصب المشير عبد الفتاح السيسي رئيسًا، بعد أن وزره ونوطه أرفع الأوسمة محمد مرسي اثناء رئاسته للمناسبة. كما تمكن العصار من تحقيق معادلة مفتاح واحد لأقفال عديدة، مستجلبًا التسليح الأمريكي الروسي الفرنسي والصيني كلها معًا. ناهيك عن بترودولار الإمارات والسعودية والفوترة الباهظة التي يفرضها الجيش المصري عليهما مقابل مجمل التدخلات المضادة في عديد من البقاع في المنطقة العربية. والأهم قد يكون وسط كل ذلك، إمكانية موازنة وتحييد الارتعاب الإسرائيلي من أي إمكانية لتهديد مصري محتمل تجاهها، هذا وأن التقديرات الأمنية الإسرائيلية لم تتوقف يومًا عن التعاطي مع مصر والعراق من باب ممكناتهما المتكاملة في تهديد أمن ومصالح إسرائيل إذا ما حل واقع سيادي ديمقراطي معبر عن الصالح العام في كل منهما وأرادتا ذلك التهديد.
يحاول السيسي أن يؤسس واقعيًا لمصفوفة دولة الواحد، بدل دولة التنظيم أو الحزب الواحد. ما يشي في إحدى مستوياته بإمكانيات مطروحة على مستقبل السيسي غير تلك الممكنات التي يراها هو ويدأب في التأسيس لها، كما أنها غير ما يتمناه خصومه في الإعلام أو خارجه
وعليه يبدو أن السيسي قد صعد مؤخرًا من تعزيز صفوف العسكر في مجمل التفاصيل غير العسكرية داخل أجهزة الدولة المصرية، خاصة المناصب المتوسطة، بعد أن أغلق سؤال وظائف رأس الهرم بالضرورة، رفقة موجة من التشغيل المتصل بأموال الدولة لمن يمكن أن يشكل ظرف استمرار تعطيلهم عن العمل بيئة اجتماعية خصبة يحتاجها أي نزوع لقلب الأحوال أو بعض منها من داخل تنظيم الدولة، خصوصًا بغياب القلق من الأوساط النقابية حاليًا. إنها الدولة العميقة في أوضح تجلياتها بعيدًا عن نظرية المؤامرة ودون حاجة للتآمر، إنها شبكة مصالح لا تحتاج إلى أكثر من قدح شرارتها، لتعمل هي ذاتها على صيانة وجودها وإعادة إنتاجه بما يلائم إعادة إنتاج سلطة الهيمنة الشاخصة أساسًا، لكن بشروط أكثر تعقيدًا وبشكل تراكمي.
اقرأ/ي أيضًا: أكتوبر 1973.. الأيديولوجيا والشرعية
ربما يمكن الاستغناء عن القول أن حسم الراحل جمال عبدالناصر للمهددات وممكنات التدافع من الداخل نحو حدود التنظيم السياسي الذي أعاد تشكيله أتى من باب وعيه بكيفية التعاطي مع عصبيات ناشئة شبيهة من موقعه عسكري غير متدرج على رأس جمهورية ضباط. لذلك فالتنكيل الشاسع بالخصوم الفعليين والمحتملين، تنظيميين وسياسيين، وتأليبهم على بعضهم بعضا لم يكن هواية أو تعبير أيدولوجي عن أفكار أو قيم بالضرورة. لكن هذه التجربة، تخضع لما هو أشبه بالأدلجة اليوم وبنكهة ساداتية بادية، ليبدو السيسي في موقع من لا يستطيع الاستغناء عن مثل هذا القول، وعيًا بالشروط البنيوية من حوله، وتوخيًا لآليات مجربة ومثبتة بالتجربة والبرهان، أقله في إرساء تنظيم الدولة داخليًا. لذلك أيضًا، لم يغب مؤخرًا، حتى المتقاعدين شبه المنسيين من الأجهزة الأمنية، بالتأكيد على رأسها القوات المسلحة، عن سلسلة الرتب والرواتب في مؤسسات وشركات مجملها مدني الطابع والنشاط. كذلك الحال مع اشتراط موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على أي ترشيح انتخابي من أي مستوى لصاحب أي رتبة عسكرية. إضافة لعبث السيسي المستمر بتشكيلة المجلس الأعلى، من باب الإضافة لا الحذف حتى اللحظة، وإعادة قولبة قانون الدفاع الشعبي، الذي أتى بمثابة إحدى لوائح حرب الاستنزاف المأفونة في التأريخ العسكري، حتى لدى الجيش المصري نفسه، ليؤكد السيسي من باب آخر أن ضرورات وتكتيكات تنظيم الدولة سابقًا أمست أقرب إلى مسار أيدولوجي لديه.
كما يمكن القول أيضًا أنه كما استطاع الراحل عبدالناصر، أن يؤسس ويثبت دعائم مفهوم الحزب الواحد في هيئة دولة وأجهزة دولة بما أدى ذلك إلى أن ظل الصراع متعدد الأوجه ومحصور بتجاذب الأقوى داخل هذا التنظيم. هذا تمامًا ما يقفز منه السيسي اليوم، نحو المنصب الواحد في مكان الحزب الواحد، محاولًا أن يؤسس واقعيًا لمصفوفة دولة الواحد، بدل دولة التنظيم أو الحزب الواحد. ما يشي في إحدى مستوياته بإمكانيات مطروحة على مستقبل السيسي غير تلك الممكنات التي يراها هو ويدأب في التأسيس لها، كما أنها غير ما يتمناه خصومه في الإعلام أو خارجه.
لذلك كله، محاكاة للإمكانية المذكورة أخيرًا، وبعد أكثر من موجة فشل، سواء رومانسية أو مشهدية، لممكنات الانقلاب على الشروط البنيوية للتنظيم السياسي الدولتي المتسع والموسع، كما المهيمن مصريًا. لا يمكن الاعتقاد بإمكانية أي تعاط فعال صاحب مشروع سياسي دون خلق معرض للتهديد تحت ضربات حركة اجتماعية وازنة، من وزن كفاية وإضرابات المحلة مثلًا، يستشعره التنظيم السياسي الحالي للدولة في مصر، ويفكر باستنفار نفسه بضغط داخلي وتأليب لفريق على آخر وتجسير تحالف معه، بعيدًا عن الأحكام الأخلاقية والأوتوبيات السياسوية، فإن الميدان سيبقى خاليًا أمام المشروع الذي لم يعد حتى مشروع تنظيم الدولة المصرية، بل بدأ يتأرجح نحو اصطفاف يعيد تموضعه كمشروع لممثل تنظيم الدولة المصرية حاليًا، لا صاحبه بالضرورة. ما يؤكد في أحد جوانبه أن الفراغ أو الخيار الواحد الموحد والنهائي لم يكن حاضرًا في أحد أيام تنظيم الدولة في مصر، كما أن الثبات الراكد ليس من خيارات السياسة التي تستهوي العسكر، خصوصًا حينما يقفون في موضع الأكثر قدرة على المغامرة، المحسوبة بالطبع.
اقرأ/ي أيضًا:
لماذا عزل السيسي صهره محمود حجازي من رئاسة الأركان المصرية؟
هل يهدد السيسي الجيش بالجيش؟.. مصر تتساءل عبر السوشيال ميديا