الكوفية، العلم، البطيخ، مفاتيح البيوت، حنظلة، قبة الصخرة، البندقية، الزيتون، الصبّار، البرتقال، لوحة جمل المحامل.. لطالما مثّل كل من هذه الرموز جزءًا من حياة وتاريخ الشعب الفلسطيني، ولطالما حضرت في حياته اليومية كمفرداتٍ أساسية تعبّر عن هويته الجريحة وسعيه نحو الحرية، لكننا لم نتخيل يومًا أن لحظة عولمتها ستأتي لنراها منتشرةً في جهات الأرض، وذلك نتيجة هيمنة السردية الصهيونية على الخطاب العام في عصرنا.
لم تعد حالاتٍ عابرةً تلك التي نطالعها كل يوم، من ممثلةٍ تُصمّم فستانها ليكون بألوان العلم الفلسطيني في مهرجان دولي، أو تكتب أخرى اسم "فلسطين" على فستانها خلال إطلالة ما، أو يطالب نجم بمحاسبة مرتكبي الإبادة الجماعية في محفل استثنائي، إلى جانب شباب يضعون البطيخ وتطريز الكوفية وشومًا على أجسادهم.. تحدث مثل هذه أشياء لتؤكد أن العالم مختلف عما كان، وأنه يمضي نحو جهةٍ جديدة لن تكون فيها فلسطين تهمةً باطلة يوصم فيها الساعون إلى تحقيق الحرية والعدالة لشعبها بأنهم معادون للسامية أو كارهون لليهود، بل باتت تُرى كما يجب أن تُرى؛ قضيةَ ظلمٍ وانتهاك حقوقٍ تمتد على زمن طويل، وليس ما يحدث في غزة الآن سوى فصل من سِفْر قهرٍ شديد الضخامة.
عندما بدأت هذه الرموز باكتساب طابع عالمي، لم تعد تقتصر على تمثيل فلسطين وحسب، بل أُضيفت إليها معانٍ جديدة وصارت تُعبّر عن قيم المساواة والعدالة والتضامن. وباتت أيضًا شكلًا جديدًا من أشكال المقاومة الشعبية للنظام العالمي، الذي يتسم بالتمييز والتسلط.
هكذا إذن، عندما يرتدي الناس الكوفية فإنهم يحملون فوق قماشها وتطريزها معاني العدالة ورفض التفوق الغربي، ويؤكدون من خلالها على حقوق شعب مظلوم أنكرها عالم مثخن بالظلم.
عندما يرتدي الناس الكوفية فإنهم يحملون فوق قماشها وتطريزها معاني العدالة ورفض التفوق الغربي، ويؤكدون من خلالها على حقوق شعب مظلوم أنكرها عالم مثخن بالظلم
بمجرد أن أصبحت هذه الرموز جزءًا من الحركة العالمية نحو العدالة، ظهر تأثيرها الكبير على الوعي والسلوك السياسي في العديد من البلدان، فعندما يتجمّع الناس لتأييد فلسطين فإنهم في الواقع ينادون بالسلام والعدالة في كل مكان، مما يؤكد على أن القضية الفلسطينية لم تعد محصورة في حدود جغرافية معينة، بل أصبحت أيضًا رمزًا إنسانيًا لعصرنا.
ومن المفارقات الهامة أن أكثر من ساهم في نشر هذه السردية وتغيير كل ما يحيط بها هم يهود العالم، الذين أكّدوا عبر تبني هذه الرموز أن السردية الإسرائيلية هُزمت رغم امتلاكها ماكينة دعاية فتّاكة، وأنهارًا من المال وتاريخًا من صناعة الحقائق لصالح منع أي تشكيك فيها، لتظهر إسرائيل، مع سقوط كل ذلك، دولةً استعمارية قائمة على سلب أرض الغير وسرديتهم، مثلها هي مثل كل المشاريع الاستعمارية الغربية، وهذا ساعد على زخم التحول في الخطاب العام، حيث باتت العديد من الأفراد والمنظمات والدول تعترف علنًا بحقوق الفلسطينيين وتُدين الإجراءات الإسرائيلية.
تنتقل الرموز الفلسطينية من حيز التعبير عن الهوية الفلسطينية، والتجربة التاريخية لشعب قاسى التشرد والاحتلال، إلى مرحلةٍ جديدة من حياتها، ومن حياة الرموز كلها بطبيعة الحال، حين تصبح وسيلةً لدعم الجهود الإنسانية لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. وحين تغدو أداةً في زيادة الضغط السياسي على الحكومات والمؤسسات التي تدعم إسرائيل، مما يمكن أن يُترجم إلى سياساتٍ جديدة، أو لمراجعات للعلاقات مع إسرائيل، والأبعد من هذا وذاك أنها تكسر الحدود الوهمية التي بُنيت بين شعوب الأرض، كي لا يجد المقهورون لغةً يتعرّفون فيها على بعضهم البعض.