30-أغسطس-2024
جزء من لوحة لـفيلهلم هامرشوي/ الدنمارك

جزء من لوحة لـ فيلهلم هامرشوي/ الدنمارك

الأشياء التي نتركها خلفنا حين نقرر الرحيل تتخذُ، روحًا جديدة حين نراها مرّة ثانية. 

الأشياء، وأعني هنا كل ما اعتدنا استخدامه بشكل يومي، أو شبه يومي، تصيرُ غريبة، لا مشاعرَ لنا تجاهها، ولا تحرّك فينا شيئًا. 

نحنُ الذين قررنا تركها هنا لنمشي نحو ما نريد، فلا عتبَ عليها ولا أسف. 

*

إنْ قررنا بداية جديدة، فلا يكفي فقط أن نطوي صفحة الماضي وما عايشناه فيه، بل علينا البدءُ بكتاب جديد لا يحتوي على شيء مما مضى. 

حياتنا تتسعُ لكتب أجمل نكتبها، بعد أن ننتهي من سابقه. 

*

مختلفون نحن في صفحات كتبنا الجديدة، لا نشبه ما كنّا عليه، اختلافٌ جاء بعد تجربةٍ عشناها بكل ما فيها من روح، وموسيقى، وطرقٍ مغلقة، وأسوار عالية، وحدودٌ اجتزناها، وإقلاع وهبوط متكرر بين الصفحات باحثين عن أفضل مذاق للقهوة، وألذ قطعة بيتزا، ومكانٌ هادىٌ نكتب فيه بسلام. 

مختلفون نحن عمّا أنتجناه في العمر الذي مشى يومًا يومًا أمامَ أعيننا، بطوله أو بقصره، بفراغه أو ازدحامه، بجديدٍ يُنسينا قسوة الجو، أو بقديمٍ يلدغُنا على مهله حين نراقب ثلجًا يتراكم ببراءة القتلة المتسلسلين. 

مختلفون تمامًا حين نُغلق الباب متأكدين أنها المرّة الأخيرة، وأن مفتاحه لم يعد في جيبنا. 

*

 تنتهي الحكايات حين نُرسل ما عشناه إلى المطبعة،

أو الأرشيف.

*

تتأثرُ أحكامنا حول أي تجربةٍ نعيشها بتفاصيل نهايتها، وننسى أحيانًا، أننا خلالها، كنّا نظنُّ أنها لن تنتهي، وحتمًا، سيكون الفصلُ الأخير فيها انتقادًا لكل ما مررنا به من زوابع، وحروق، وفيضانات سحبت في طريقها شيئًا منا، فقدناه دون أن نشعر حينها، لكن السطور الأخيرة ذكرتنا بها.

لا يوجد تجارب سيئة نعيشها، فكل تجربة تمثلُ طريقًا اخترنا المشي فيه بإرادتنا، وكنا راضين عن ذلك. أما الطريق الذي سلكناه دون اختيارنا، فكان حتمًا اختيارٌ لآخرٍ وثقنا به لحظة ما، وأحببنا مشاركته فيه، لا شيء آخر سوى حبنا لرفقته، وإن خذلنا في نهاية الطريق، سنتذكر بدايته، ومنتصفه، وما قبل النهاية لنرضى عن الاختيار الذي لم نختره.

نهاية الطريق الذي لم نختره يقودنا إلى معرفةٍ أكبر لذاتنا، واكتشافُ طرقٍ أخرى نريدها ونستطيع هذه المرّة اختيار المشي فيها، نكبرُ عند خط النهاية، فنصبحُ أكثر استعدادًا لسباق آخر نُسجل اسمنا فيه رغبةً منّا في العدو مجددًا، مع رفيقٍ جديد.

*

بالعودة إلى ذاكرة الأشياء حين نراها مرّة أخرى، ومنذُ اللحظة الأولى نسمعها تتكلم لغةً نجهلها، لا نعرفها، لم يسبق لنا أن تعلمناها، عندها تحديدًا، نوقن أنها باتت غريبة، لا نفهمها ولا تفهمنا حتى وإن حاولنا ذلك.

*

تُختصرُ الحياة أحيانًا في سطرين، أو فصلين، أو كتابين، لكن الحياة الأجمل هي التي لا زلنا قادرين على كتابة تفاصيلها صفحةً بعد أخرى دون أن نشعر بملل أو تعب.

رفيقنا في سباق العدو الجديد أعطانا يده لنكمل، أمّا سباقنا القديم الذي خضناه، تداخلت الحارات فيه وأكملناه وحدنا، لم نجد يدًا تدلنا على نهايته، فقررنا إكماله، لنفوزَ بأنفسنا وتركنا لهم فوضى الحارات.

*

تذكرت اللحظة كأنها الآن.

تذكرتها بتفاصيلها وطولها، طولها الذي امتد كثيرًا، أكثر من مجرد عدد الرنات التي نسمعها حين نتصل بأحد نحتاجه، ولا يجيب.

نعاود الاتصال مرّة أخرى، ومرّة بعدها على أملٍ، ولا صوتَ في الجهة المقابلة نسمعه.

حين نبتعدُ بالزمن عن لحظاتٍ كهذه، نعيد فهمها من زاويةٍ أخرى، نعيدُ استيعابها من جديد بعد أن كان ما كان، وأصبحنا ما نحنُ عليه اليوم.

لحظة حدوثها ظننا أن الكون ضيّق، وأن الهواءَ صارَ سُمًّا، والحيطان أصبحت تتحرك لتحشرنا في وحدتنا، رنّات الهاتف التي ربما يسمعها أكثر من مئة مليون شخص في تلك اللحظة، صارت إبَرًا تنغرسُ في أكثر مفاصلنا ضعفًا، تؤذينا توقعاتنا حين تكونُ أكبر من رد الفعل الذي نتوقعه، يؤلمنا ردُ الفعل الذي حين نحتاجه، لا نجده.

في لحظة ما، يكون الصوتُ فقط هو ما نريدُ سماعه، لا شيء آخر، ولا كلمة معينة، ولا جملة محددة، الصوتُ فقط الذي يجعل هذا العالم أكثر أمنًا حينها، وفي ذات اللحظة حين نتذكرها بعد مدّة، نعرفُ أننا كنّا محظوظين لعدم سماعه يومها، فنشكرُ فارق التوقيت، والمناخ، ومجهولٌ كانَ سببًا في ابقائنا على قيد انتظار الصوت، لاختلاف الأهمية.

*

في زمن هواتف الخطوط السلكية/الأرضية، وللتأكد من أنها تعمل، كُنّا نُسأل إن كان فيها "حرارة"، وهي النغمة المتصلة التي نسمعها فور وضع السماعة على آذاننا، وبعد اختفاء الأسلاك واستخدام الأرض كموصلٍ للحرارة، فقد الاتصال معناه، وقد أعطى للمُتَصلِ عليه حريّة الإجابة على المُتصل بعد أن صار الاسم وبعدها الصورة تظهر فور اتصالنا، راحت الحرارة التي كانت تصيبنا حين يرن الهاتف فنركضُ بفضولٍ لنعرف من ينتظرُ على الطرف الآخر من السلك.

صارَ السلك هواءً، وفراغًا،

وكل شيء يبرد في الفراغ.

*

أفقدتنا التكنولوجيا الحرارة، لكنها في المقابل منحتنا السهولة في حرق الرسائل، والصور، والذكريات، فلا حاجة اليوم إلى إشعال برميل نلقي فيه كل شيء، يكفينا فقط تحديدُ اسم ما، ثم الضغط على خيار "اختيار الكل" وبكل سهولة اختيارُ "حذف نهائي"، سيحتاجُ معالجُ الهاتف أو اللابتوب لبعض الثواني لإنهاء مهمته التي طلبناها، وفور انتهائها، ستتسعُ الذاكرة، وسيصبحُ أرشقَ في استيعاب الملفات الجديدة.

الحرارة أساسُ حضارة البشر، وارتباطُهم بأرضهم، وببعضهم، وفي اللحظة التي خمدت فيها بفعل الأبراج التي صارت ترسل وتستقبل موجات لا نراها، بَرَدَ فينا كلُّ شيء.

*

مكالماتٌ لم يُردُ عليها في وقت حاجتها كانت سببًا في تغيير اتجاه الريح.

مكالماتُ كان من الأفضل أنهُ لم يُردُ عليها.

**

تنتهي الحكايات حين يبردُ المعنى في السؤال العادي، وينتهي الحُب حين تختارُ المسافة قتل المشاعر.