يتهيأ للمرء الذي يعتقد في التسلسل التصاعدي للتاريخ المتجه نحو كل "أسمى" أن الحداثة حدث لا زمكاني سيكون قدر العوالم المحتوم، هب أن الحداثة قد اتخدت عند أهل العزم من الغربيين صورة الرحى، فهي تطحن الواقع لتخرج منه شيئًا ما بين المفيد والجوهري. سمته المعرفة العقلانية، إنها كل طريقة قد تفيد في إعطاء صورة يتقبلها العقل عن ظواهر العالم، وتمكنه من خلال نتائجها إلى التوصل لطرق بسط السلطان الأعلى للإنسان الحداثي الأسمى على الحياة الدنيا.
كان على إنسان الحداثة الأول أن يختار في أي الجانبين يموقع نفسه، قبل اللغة أم بعدها... لم يكن السؤال مهمًا بقدر ما كان يهم سؤال استعمال اللغة الحقة لغاية الحقيقة النافعة
كان لا بد لهذا المشروع كي يكتمل أن يعود إلى مكون أساسي يحدد كل علاقة مع العالم، إنها اللغة، لقد كان على إنسان الحداثة الأول أن يختار في أي الجانبين يموقع نفسه، قبل اللغة أم بعدها... لم يكن السؤال مهمًا بقدر ما كان يهم سؤال استعمال اللغة الحقة لغاية الحقيقة النافعة.
أن تستعمل اللغة
لقد أسهمت الثورة الصناعية المبكرة في ترسيخ النظرة الأداتية للعالم، حتى حسب الإنسان الحديث أن الإله لا بد له أن يوجد في قمرة قيادة هذا الكون الفسيح، فأوجد لنفسه أزرارًا ومكابح يحرك أو يوقف من خلالها سير الحياة والعالم، فانسلت الأداة إلى اللغة لتصبح "وسيلة يصف/يستوعب بها الإنسان العالم" فبعد أن كانت اللغة/الكلمة/الملكة (بالمفهوم المسيحي) تخلق العالم وتوحي على سرمدية خالقه، صارت اللغة/الآلة التي تساعد على الحفر في أنساق العالم دالة على طرق ترويضه. فذهب عندهم القول الكثير في أن للغة نسق يتطابق وينمو على حسب السياق، وتختار فيه المعاني يحكمها التطور وفي بعض الأحيان الاعتباط. لكن اللغة وهي أداة تطرح السؤال المزعج: منذا الذي يتحكم في الفكر رموز ولغات؟ بعبارة أخرى ما هي الماهية التي تسبق الوجود اللغوي في الإنسان؟
اقرأ/ي أيضًا: اللغة وسيلةٌ للتواصل!
لقد ذكر الفيلسوف جيلبير أوطوا في كتابه عن "الرمز والتقنية" إن المنظور الأداتي للغة جعلنا ننظرها كوسيط بيننا وبين العالم، وأن المتحكم في قمرة القيادة وجود مبهم يتعالى عن اللغة. غير أن العكس في نظره هو الصحيح، لأن الرمز لا يوجد بمعزل عن الذات فالذات هي الرمز الذي يبحث لنفسه عن القيمة. ولما كانت للقيمة رمز استوعبها الإنسان وجعلها جزءًا من كينونته، وانطلق من خلالها نحو افلاك أخرى. إن النظر إلى اللغة كأداة هو آفة ناتجة عن تقننة العلم وجعله أداة في سبيل التطور التقني، وبما أن الإطار العام الذي هو العلم صار في خدمة التقدم كان لا بد لأحد أسسه الذي هو اللغة ان يصير أداة أيضًا.
أن تسكن اللغة
بعد الآفات التي عانتها أوروبا جراء الحرب، وبعد أن انهار كل شيء بقي المعنى وحده محاولًا الصمود في وجه الصمت اللآلي الذي اكتسح البلاد، وكان لا بد أن يجد الإنسان فسحة يتسلل إليها النور وسط العمى. كذلك اتجه هايدغر إلى السكن في اللغة والخروج بها إلى فسحة الكينونة كمواجهة للموت المنتشر مند الأزل. في حين، حمل جاك دريدا مطرقة وبدأ يفكك النظم البنيوية للنص اللغوي قائلًا بأن "لا شيء يوجد خارج النص"، بحيث تصير اللغة مكمن التأجيل "Différance" فيولد النص من معناه ما قد يتعدى حضور الكاتب أو نياته، ليصبح للنص نسق من التعقيدات والظلمات بعضها فوق بعض يلزم تفكيكها للنفاذ إلى كنه يتغير بتغير النظرات والقراءات.
في الجانب الآخر من المرآة، أعني هنا الزاوية النمساوية، نظر أهل الصناعة المنطقية إلى مطبات وأعطاب اللغات المتداولة الطبيعية حتى صار بعضهم يقول باللغة الكاملة المستقاة من المنطق الرياضي، التي تتعالى عن إمكانات الخطأ في التعبير أو المعنى، والبعد عن اللامعنى كنتاج لعدم النظر في اللغة من الزاوية المنطقية، فقال بعضهم بأن هم الفلسفة الوحيد يجب أن يكون النظر في تصحيح التعسفات اللغوية والوقوف لها بالمرصاد. مختصر القول إن كلًّا سكن اللغة بنظره، مُذكرًا أو مفككًا أو مصلحًا.
قصارى القول؛ إن الفعل اللغوي اتخذ عند هؤلاء أشكالًا عدة، فإذا كانت الحداثة تقول بتسخير العالم للإنسان-العقل كانت اللغة حينها أداة من أدوات التقنية، وحين بلغ الأمر ما بلغ من انتكاسة حيث نقضت الحداثة نفسها بنفسها متعديةً ذاتها إلى ما بعدها. صارت اللغة موضوع فحص فذهب الاتجاه القاري محايدًا للعقلانية قائلًا بحتمية المكوث في اللغة، وأنها السبيل الوحيد للخلاص من ويلات العدم. في حين ذهب أهل التحليل إلى القول بالعمل على البنيان اللغوي عمل الصانع المتقن من تنقيب وتعديل وتصحيح.
اتجه هايدغر إلى السكن في اللغة والخروج بها إلى فسحة الكينونة كمواجهة للموت المنتشر مند الأزل
سيخلص القول إلى أن السبيل الأمثل للنظر إلى العالم المعاصر هو النظر إلى وعبر اللغة، فصار الفكر نظرًا في النص بدلًا من الواقع ونظرًا في المعنى بدلًا من المبنى. إن نحن عدنا إلى قول جيلبير أوطوا لوجدنا ان التطور الطبيعي للفلسفة بشكل علم رهين بالتطور التفكري في اللغة. إنها ظاهرة أوروبية بامتياز تلك التي جعلت الكلمة المسيحية السبيل الوحيد للنفاذ إلى جوهر الظواهر في العالم. لعلّ العودة إلى اللغة الفلسفة، بما هي نظر في اللغة بطريقة عقلية ونظر في العقل بطريقة لغوية، يرجع إلى تطور العلوم وخروجها عن سلطان الفلسفة، ولكن ليس هذا فحسب بل إن النظر في اللغة أيضًا كموضوعة/منهج أساسي للعمل الفلسفي، وراجع إلى عودة القناعة العقلية والاعتقادية (بالمفهوم المعرفي) بقوة الكلمة/اللغة في فلسفة ما بعد الحداثة.
اقرأ/ي أيضًا: هل من "صحافة لغة" في العالم العربي؟
في نهاية المطاف، العود الأبدي للتاريخ قد يتخذ أشكالًا مختلفة، والحداثة التي كانت تقول بأنها تبني لنفسها سكتة لا ينعطف مسارها باتت دائرية الاتجاه، فهل من طريق جديد يعود إلى مسار لا يأكل فيه الثعبان ذيله؟
اقرأ/ي أيضًا: